الثورة – إيمان زرزور:
في زمن تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، فرضت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها كأداة رئيسة في الحياة اليومية، وأصبحت منصات، مثل فيسبوك، واتساب، إنستغرام، وتيك توك بمثابة شرايين اتصال رقمي بين الناس من مختلف الأعمار والخلفيات، إلا أن هذا الانفتاح لم يأتِ بلا ثمن، فقد تسللت هذه الوسائل إلى أدق تفاصيل الحياة الأسرية، محدثةً تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات داخل البيت الواحد.
أحد أبرز مظاهر هذا التأثير هو ما يُعرف بـ”الصمت الرقمي”، حيث يلتقي أفراد الأسرة في المكان نفسه، لكن دون تواصل حقيقي، ترى الأب والأم والأبناء على مائدة الطعام أو في غرفة الجلوس، وكلٌّ منهم منشغل بهاتفه المحمول، غارق في عالم افتراضي منفصل، بينما يغيب الحوار الحقيقي، وتذبل الروابط العاطفية.
هذا النمط الجديد من التفاعل الرقمي أدى إلى تآكل اللغة الأسرية التقليدية، وتراجع الاهتمام بالتفاصيل اليومية، كما عزز الشعور بالإهمال لدى بعض الأفراد، لا سيما الأطفال وكبار السن، الذين باتوا يشعرون بأنهم خارج دائرة الاهتمام.
امتد تأثير الإدمان الرقمي داخل البيوت ليخلق مشكلات حقيقية تمس جوهر الحياة الأسرية إلى تراجع الألفة العاطفية بسبب ندرة التواصل اللفظي وغياب الحميمية في العلاقات، وتصاعد الخلافات الزوجية نتيجة شعور أحد الطرفين بالإهمال أو عدم التقدير، وانعكاسات على الأطفال حيث يدفع غياب التفاعل مع الأبوين بعض الأطفال إلى البحث عن بدائل على الإنترنت، ما يعرضهم لمخاطر إضافية مثل التنمر أو الاستغلال.
ورغم التأثير العميق لا يزال بالإمكان إعادة التوازن للحياة الأسرية، عبر إجراءات بسيطة لكنها فعالة، من خلال تحديد أوقات خالية من الأجهزة، مثل ساعة يومياً أو وقت الطعام العائلي، أو القيام بأنشطة مشتركة واقعية كالألعاب الجماعية، الرحلات أو الطهي معاً، والحوار العائلي المنتظم عبر تخصيص وقت للحديث عن اليوم أو مشاركة الأفكار والمشاعر، ولا ننسى دور القدوة من الأهل فحين يرى الأطفال توازن الوالدين بين الحياة الواقعية والافتراضية، يصبحون أكثر قدرة على محاكاة هذا التوازن.
وسائل التواصل ليست شراً مطلقاً بطبيعتها، بل أدوات يمكن تسخيرها لبناء علاقات إنسانية إيجابية، إذا ما استُخدمت بوعي ومسؤولية، لكن حين يتحول الهاتف إلى طرف ثالث دائم الحضور في كل لحظة عائلية، تصبح النتيجة علاقات سطحية ومشاعر خافتة، ما يتطلب وقفة صادقة لإعادة ترتيب الأولويات، ومنح من نحبهم وقتاً حقيقياً غير مشروط بالشاشة.