الثورة – إيمان زرزور
ليست الأسواق الشعبية في سوريا مجرّد أماكن للبيع والشراء، بل تشكّل جزءاً حيّاً من نسيج المدن، وهويتها الثقافية والمعمارية، فكل زقاق فيها يحمل بصمة التاريخ، وكل قوس يروي حكاية، وكل باب خشبي محفور بعناية يفتح على عالم من الذوق والفن والتراث.
عند السير في هذه الأسواق، تبهرك التفاصيل الدقيقة التي صُمّمت بعناية لتلائم البيئة وتخدم الزوار، من الأزقة الضيّقة التي توفّر الظل والتهوية، إلى الأقواس الحجرية العالية والأسقف المعقودة التي تتيح مرور الضوء دون إزعاج، في انسجام رائع بين الجمال والوظيفة.
السوق الشعبي في سوريا ليس مجرّد شارع تجاري، بل هو شبكة مترابطة من الفضاءات المعمارية التي تجمع بين المسجد والخان والحمّام والبيت، ضمن تخطيط تقليدي يراعي المناخ والبيئة، وتتميّز هذه الأسواق بتغطية شاملة تحمي الزوار من المطر وحرارة الشمس، وبتفاصيل ذكية مثل “شبابيك الضوء” التي تسمح للضوء الطبيعي بالتسلّل دون رفع حرارة المكان، في توازن مثالي بين الراحة البصرية والبيئية.
تستخدم الأسواق الشعبية السورية مواد تقليدية تحمل بُعداً وظيفياً وجمالياً في آنٍ واحد، من أبرزها الحجر الدمشقي والحلبي وهو أساس البناء الذي يمنح الأسواق متانة وطابعاً فريداً، كذلك الأقواس والعقود التي تساهم في توزيع الضغط وتُضفي تناسقاً بصرياً.
يضاف للرونق المعماري الأبواب الخشبية المنحوتة التي تُعد قطعاً فنية بحد ذاتها، تعكس مهارة الحرفيين السوريين، والمشربيات والنوافذ الصغيرة التي تجمع بين الخصوصية والتهوية، وتحمل طابعاً شرقياً أصيلاً.
من هذه الأسواق، سوق الحميدية (دمشق)، من أشهر الأسواق المسقوفة في العالم العربي، يمتد بطول 600 متر، ويتميّز بسقف حديدي مثقوب يجعل الضوء يتسلّل كأنّه طيف من الذاكرة، وسوق مدحت باشا يُوازي الحميدية ويضم مهناً مرتبة منطقياً (كالعطارين والنحاسين)، ويُعد نموذجاً لتخطيط الأسواق التقليدية، ولاننسى سوق خان الحرير (حلب)، من أقدم الأسواق المغطاة في العالم، يتميّز بعقوده الحجرية العالية وخاناته التي جمعت بين التخزين والتجارة منذ القرن السادس عشر.
لا تقتصر أهمية الأسواق الشعبية على قيمتها التاريخية والجمالية، بل تلعب دوراً حيوياً في دعم الاقتصاد المحلي، فهي توفّر فرص عمل لصغار التجار والحرفيين، وتُعدّ حلقة وصل بين المنتج والمستهلك بأسعار تنافسية، مقارنةً بالمراكز التجارية الحديثة.
كما تُعد هذه الأسواق وجهة سياحية رئيسية، يقصدها الزوّار لاقتناء المنتجات التقليدية والحرف اليدوية، ما يساهم في الحفاظ على الحِرَف القديمة، ويُعزز الاقتصاد القائم على التراث.
الأسواق الشعبية ليست مجرّد معالم أثرية، بل شواهد حية على عبقرية المعمار السوري، الذي عرف كيف يُحوّل الحاجة إلى فن، والبساطة إلى أناقة، وفي زمن تغمره الحداثة، تبقى هذه الأسواق نابضةً بالحياة، تُذكّرنا أن الهوية لا تُعلّق في المتاحف، بل تُصاغ يوماً بعد يوم في تفاصيل العيش، وفي عبق الحجر، ورنين النحاس، وهمس الضوء في الأزقة.