الثورة – محجوب الرقشة
أشبه ما تسمى “جمعيات خيرية على الورق” لا تقوم بنشاطات حقيقية على أرض الواقع، وتقتصر مهامها على كونها مجرد أسماء أو كيانات مسجلة فقط, بمعنى.. جمعيات وهمية غير فاعلة, واستخدامها يبدو كغطاء لأنشطة تخدم مصالح القائمين عليها، وكأن عملية إشهارها, أصبحت مجرد عرف اجتماعي من باب ‘البرستيج’, وسط غياب الرقابة والمتابعة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على هذا القطاع الهام, لجهة دراسة أوضاع أي جمعية مُشهرة, ومدى أدائها للأدوار والمهام المناطة بها, والتحقق من مصداقية عملها من خلال زيارة المقرات ومتابعة الأنشطة, والاطلاع على تقييمات وآراء الآخرين عنها, والمسؤولية الرئيسة التي ما زلنا نراها بعيدة عن تنظيم هذا القطاع, وخاصة الزيادة في الإشهار, إذ لا تهم بقدر الدور الحقيقي الملموس على أرض الواقع لكل منها.
بالمقابل.. لا أحد يمكنه أن ينكر الدور الذي تقوم به, عدد من الجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية في الشأن الخيري والتنموي, في المناطق المتضررة, والتحديات الكبيرة التي واجهتها نتيجة سنوات الحرب التي عاشتها البلاد بفعل النظام المخلوع, لناحية العمل على توفير الاحتياجات الأساسية للمستحقين والأسر المحتاجة، وتقديم العون والمساعدة للفئات الأكثر احتياجاً.
تجميل قبح النظام المخلوع
الخبير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ماهر رزق يوضح لصحيفة الثورة أنه خلال سنوات الثورة تم تخفيف القيود الرسمية والأمنية على تأسيس الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية، خلافاً لما كان قائماً قبل الثورة بالتقييد الشديد للتأسيس, فكان تنامي المنظمات غير الحكومية لأغراض سياسية واجتماعية، إذ كانت كل هذه المنظمات تحت مظلة زوجة الرئيس الفار “أسماء الأخرس”، واستخدمت هذه المنظمات كأداة لتجميل الوجه القبيح للنظام المخلوع. ويُبيّن رزق في حديثه لصحيفة الثورة أن عدداً غير قليل من الجمعيات والمنظمات والمبادرات كانت كما تسمى اصطلاحاً “جمعيات صالونات”، وكان التأسيس من الحلقة الضيقة المرتبطة بالنظام البائد من رجال أعمال وسيدات ضباط ومسؤولين في النظام المخلوع, ومن جانب آخر, كانت هذه المنظمات كالأمانة السورية للتنمية ومنظمة الهلال الأحمر أداة للفساد المالي وتوجيه المنح الدولية والأممية لخدمة أزلام وأهداف المنظومة الحاكمة” وهناك تقرير أممي عن الفساد بين الأمانة السورية للتنمية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين”.
كذلك الحال تم تأسيس عدد من المنظمات غير الحكومية على أسس غير سليمة واستخدمت ككيانات اقتصادية دون أي أثر تنموي، واستفادة من الإعفاءات الضريبية المخصصة للجمعيات، فكانت أدوات للتهرب الضريبي.
شريك في عملية التعافي
وحسب رأي رزق.. الجمعيات الخيرية القديمة والتاريخية، وحدها حافظت على بعدها الإنساني والاجتماعي، رغم المضايقات والتقييدات من السلطة التنفيذية والجهات الأمنية، مشيراً إلى أن المجتمع اليوم بحاجة إلى إشراف فاعل قادر على تطهير هذا القطاع الحيوي من رواسب الحقبة الماضية، وإعادة توجيهه ليكون شريكاً حقيقياً في عملية إعادة الإعمار وعملية التعافي الاقتصادي وتقوية أنظمة الحماية الاجتماعية وغيرها من القطاعات.
ويرى أن المسؤولية الرئيسة تقع على عاتق وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي ما زلنا نراها بعيدة عن تنظيم هذا القطاع بالشكل الأمثل، فالمطلوب اليوم مراجعة شاملة لهذا القطاع المهم الذي يطلق عليه في الدول المتطورة القطاع الثالث لأهميته، وذلك لتحديد نقاط القوة والضعف واستخلاص الدروس المستفادة، ومن ثم تطوير إستراتيجية شاملة لتنظيم هذا القطاع على أسس وطنية وتنموية فاعلة.
وسيلة للظهور الاجتماعي
الباحثة الاجتماعية دارين السليمان اعتبرت أن ظاهرة “البرستيج الاجتماعي” المرتبط بإشهار الجمعيات الخيرية باتت ملموسة بشكل واضح في المجتمع السوري، وخاصة في السنوات الأخيرة، فقد أصبح تأسيس جمعية خيرية بالنسبة لبعض الأفراد أو الجهات وسيلة للظهور الاجتماعي أو تعزيز المكانة في المحيط المهني والسياسي، أكثر مما هو تعبير عن التزام فعلي بقضايا الفقر أو التنمية الاجتماعية.
وتوضح أنه من خلال الرصد الميداني، نلاحظ أن بعض الجمعيات تُعلن عن نشاطات موسمية محدودة، غالباً في المناسبات العامة أو الدينية، ويُروّج لها إعلامياً بشكل يفوق قيمتها الواقعية، دون وجود عمل مستدام أو تأثير ملموس في حياة المستفيدين، وهذا يشير إلى تحوّل في دافعية العمل الأهلي، ويصبح شكلياً أو رمزياً أكثر منه فعّالاً.
مع ذلك لا ينبغي التعميم، فهناك جمعيات كثيرة لا تزال تقدم خدمات نوعية وتبذل جهوداً كبيرة رغم التحديات الاقتصادية والمعيشية، مؤكدة أن المشكلة تكمن في غياب آلية تقييم فعالة تميز بين العمل الحقيقي والعمل الاستعراضي.
وأشارت السليمان إلى الدور الرئيس لوزارة الشؤون الاجتماعية الذي يجب أن يتعدى تسجيل الجمعيات ومنح التراخيص، إذ إن وجود جمعيات مسجلة قانونياً لكنها غير فاعلة ميدانياً يُعد خللاً في منظومة العمل الأهلي، لذلك فإن المسؤولية المناطة بالوزارة تتوزع على عدة محاور منها المراقبة الدورية والتقييم الميداني، وتفعيل أدوات الرقابة الميدانية عبر لجان مختصة تقوم بزيارة الجمعيات، وتقييم عملها بناءً على معايير موضوعية، وليس فقط من خلال التقارير المكتوبة، والتدقيق المالي والإداري، لجهة فحص ميزانيات الجمعيات، ومصادر تمويلها، وآلية توزيع المساعدات، مع التأكد من مطابقة ذلك لأهدافها المعلنة.
وفرض العقوبات عند التقصير في حال وجود جمعيات وهمية أو غير فعّالة، ضمن إجراءات قانونية واضحة تتراوح بين التجميد المؤقت للأنشطة أو حتى سحب الترخيص، والأكثر ضرورة إنشاء وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لآليات تواصلٍ مع المستفيدين أنفسهم لأخذ رأيهم في أداء الجمعيات، كنوع من التقييم المجتمعي المباشر.
العمل التكاملي
وأضافت السليمان: لا يكمن النجاح في مدى زيادة عدد الجمعيات المُشهرة، بل في التزامها، وفاعليتها، واستدامة أثرها في تحسين حياة المحتاجين، وتزايد أعداد الجمعيات الخيرية لا يعكس بالضرورة تحسناً في الواقع الخدمي أو الاجتماعي، فالكثرة العددية من دون تنسيق أو تخطيط استراتيجي قد تؤدي إلى تشتيت الموارد وتكرار الأدوار وضعف التأثير المجتمعي، وعليه، فإن الحاجة إلى إستراتيجية وطنية شاملة باتت ملحّة، ومن الضروري أن تشمل هذه الإستراتيجية تحديد أولويات وطنية دقيقة بناءً على خريطة احتياجات اجتماعية شاملة، تشمل الفئات الأكثر هشاشة مثل الأيتام، ذوي الإعاقة، النساء المعيلات، والمناطق الريفية المهمشة، وتنظيم العلاقة بين الجمعيات والجهات الرسمية من خلال وضع إطار قانوني موحد يحدد آليات العمل، أسس الشفافية، وطرق التقييم.
ودعت إلى تحفيز الجمعيات على العمل التكاملي بدلاً من التنافسي، من خلال إنشاء قواعد بيانات مشتركة، وتنظيم العمل القطاعي حسب نوع الخدمة المقدمة، وتشجيع الجمعيات على بناء قدراتها المؤسسية من خلال برامج تدريبية ومرافقة تقنية مستمرة، لضمان استدامة وجودة الخدمات، والربط بين التمويل والأثر الفعلي، ولا تُمنح التسهيلات أو الدعم المالي إلا للجمعيات التي تثبت قدرتها على إحداث تغيير حقيقي في المجتمع.