الثورة – أحمد صلال- باريس:
يشكل فيلم “البحر وموجاته” استراحة جمالية وقصيدة ومغامرة إلى مكان آخر، كما يشكل تجربة سينمائية فريدة في قلب لبنان المعذب.
في ليلة مقمرة، تسافر نجوى الشابة، والموسيقي منصور إلى بيروت، يتبعان أثر المهربين للوصول إلى امرأة على الجانب الآخر من البحر، على بُعد بضعة شوارع، يحاول سليم، حارس المنارة القديمة، إصلاح الكهرباء في حيه.
إنهم هاربون، نحو مكان آخر حيث يمكنهم إرواء عطشهم وعيش حياتهم كشباب، يعبرون لبنان ليصلوا إلى شواطئ البحر، على متن دراجة نارية بسيطة، لا تقوى على خوض هذه الرحلة، طريقهم مليء بلقاءات مجنونة وغير مسبوقة، تُخبرنا في كل مرة عن حال الإنسانية في لبنان، الذي نعلم أنه يختنق بالتضخّم والأزمات السياسية.
“البحر وموجاته” فيلمٌ مُعقّد وشاعريّ، يُشاهد ببطء، كتجربة إنسانية وجمالية مُتميّزة، تدور أحداثه حول قصتين، قصة زوجين يعبران المدينة ليصلا إلى الضفة الأخرى من البحر، وقصة رجل يبقى في الريف، مُحاولاً إعادة إنارة الشوارع، هاتان القصتان مُتطابقتان في الواقع، تُحاول الشخصيات إيجاد معنى لوجودها، إما بالفرار أو بمحاولة استعادة كهرباء المدينة “التي لا يمنع انقطاعها بثّ شاشات إعلانية ضخمة”، تُشكّل شخصيات مُختلفة تماماً، ذات طابع خاص، الرابط بين هؤلاء الأشخاص الثلاثة، مثل بائع تذاكر يانصيب وموزّع مياه جوال، تبقى الأغاني والموسيقا أحد الخيوط المشتركة لجميع هؤلاء الذين يُكافحون للهروب من الفساد الذي يعيشون فيه.
ليانا قصير، ورينو باشو من رواد السينما، في هذا الفيلم الروائي الطويل الأول، نلمس سنوات العمل على المواد السينمائية والضوء والألوان، يتبنّيان شاعرية الموضوع، لغة سينمائية جديدة ومعقدة، ويضعان مسألة الحب وتحقيق الذات في صميم الفيلم.
يبقى فيلم “البحر وموجاته” فيلماً تجريبياً بحق، وللمشاهد حرية إضفاء معنى شخصياً عليه، كما تُضفي الأجواء الحضرية، وتفتت المدينة، طابعاً مسرحياً على الأحداث، في مدينة فرغت من سكانها مع حلول الليل، ترن أكشاك الهاتف، جالبةً معها نبوءاتها الدرامية إلى أعماق الليل.
تُصوّر ليانا قصير ورينو باشو لبنان الذي تتعايش فيه الجدران العارية، وعزلة الوجوه المتجولة في الشوارع، وعلامات الغرور الرأسمالية والثراء الفاحش، الكلمات نادرة، باستثناء الخطب الأدبية الراقية، التي تُشكّل سرديات معزولة في خضم هذه القصة.
هذا فيلمٌ ينبغي اعتبار غرابته الظاهرة دافعاً للتأمل وإيقاظ الضمائر، تبدو عبارات الشخصيات وكأنها من مسرحية أو قصيدة، وتبقى الحقيقة أن إنسانية لبنان، المهزومة والمفعمة بأملٍ ما، تُسلَّط عليها الأضواء في وقتٍ توقفت فيه وسائل الإعلام عن بثّ حزنها، تُضفي الموسيقا والأغاني العديدة بُعداً فائقاً على الفيلم، مانحةً إياه معنى لمشروع إبداعي فنيّ يقع في ملتقى الفنون، المسرح والأدب والرسم والسينما.