الثورة – أحمد صلال – باريس:
إنّ الانحياز بوصفه موقفاً تجاه العالم، وفي صلب العالم فهو يشمل جميع مجالات الوجود الإنساني، ومن ضمن هذه المجالات، هناك الأدب وفعل الكتابة بوصفهما مجالاً حيوياً لفعل المقاومة الإيتيقية- فرع من فروع الفلسفة يهتم بدراسة الأخلاق والمعايير السلوكية- والجمالية، لتعرية وفضح وقائع القهر والاستغلال، ولجعل الخيال ملكة تساهم في صياغة شكل وجود جديد يكون فيه الإنسان أكثر تحرراً وتضامناً.
هكذا هو الأديب والصحافي السوري يوسف دعيس في مجموعته القصصية الأولى “امرأة الماء” يتعرف القارئ على قصص دعيس الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 2001، وفي مجال الرواية “باب الأبواب”2021 عن دار فضاءات في الأردن.. وكان لصحيفة الثورة الحوار التالي معه:
لحظة عابرة
– لماذا كانت البدايات مع القصة القصيرة.. هل أنت مخلص لها، أم هي تمرين على الرواية، أم كون الرقة عاصمة القصة القصيرة في سوريا؟
القصة القصيرة تلتقط مشهداً عارضاً أو لحظة عابرة، وربما جاء ولعنا بالقصة وإخلاصنا لهذا الجنس الأدبي، نتيجة وجود كبار كتاب القصة السورية في بلدي الرقة، وعلى رأسهم أديبنا الكبير عبد السلام العجيلي، وأعتقد أن القصة القصيرة هي تمرين على كتابة الرواية، ولابد من متابعة القراءة باستمرار لإثراء المخزون المعرفي، فالرواية- كما يقول الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا- “ليست ترفاً بل ضرورة، إنها تساعدنا على فهم الواقع وتحدّي سلطته، من دون الرواية، تصبح الحياة فقيرة، عارية من الخيال، أسيرة ما هو مفروض.”
المسكوت عنه
– في مجموعتك القصصية الأولى “امرأة الماء” يتعرف القارئ على قصص الأديب والصحفي يوسف دعيس، تسعة نصوص، تراوحت بين المونولوج الداخلي والسرد المباشر؛ لماذا أنت مشغول بالهم السياسي منذ البدايات؟
الانشغال بالهم السياسي ليس عارضاً، بل ينبع من جذر عميق في وظيفة الأدب أولاً، ودور الكاتب في المجتمع ثانياً، فالسياسة تمس جوهر الإنسان، وانطلاقاً من كون الكاتب ضمير الناس، والشاهد على عصرهم، والقادر على كشف المسكوت عنه، لذلك يقول ألبير كامو “الكاتب لا يمكن أن يضع نفسه في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ، بل في خدمة أولئك الذين يعانون منه”، لكل ذلك جاءت مجموعتي “امرأة الماء” لتحريك الماء الراكد، والكشف عن المسكوت عنه، عبر التقاط اللحظات العابرة في حياة الناس على وجه العموم.
الجنون والقتل والدمار
– “باب الأبواب”، توغل الرواية في وصف ما حصل في مدينة الرقة خلال الثورة السورية من وجهة نظر معينة، وكأن الشخصيات شهود عيان على تفاصيل يومية في زمن الحرب، هل تشعر أن شخصياتك خرجت من الرواية وتحولت لشخصيات فعلية تعاني ما عانته في الرواية؟
أعتقد في أحيان كثيرة تخرج شخصيات الرواية لتعيش بيننا كأنها حقيقية، في روايتي “باب الأبواب” كانت الشخصيات تتلمس وجع الناس وآلامهم في يوميات الحرب التي يعيشونها، وكثير من القراء تحسسوا رؤوسهم، وهم يتابعون حيوات الشخصيات وعلاقتهم بالحرب، التي فُرضت عليهم كقدر محتوم لا مفر منه، حتى أن أحدهم قال لي: أعتقد أن “باب الأبواب” ستكون شاهداً على هذا الجنون والقتل والدمار، ومن هنا يمكننا أن نقول إن الكاتب المتفرد، من يستطيع إقناع القارئ أن ما يقرأه هو واقع نعيش تفاصيله، وأن شخصيات الرواية هي شخصيات واقعية وليست افتراضية أو متخيلة.
رحم المعاناة
– نرصد في روايتك “باب الأبواب” الحالة النفسية والذهنية للشخصيات التي تحيا الحرب المؤلمة؛ ولادة الكتاب من رحم المعاناة فرحة لا توصف، كيف يتوازن الإحساس بين المعاناة والفرح هذا من جهة، من جهة أخرى يوسف دعيس هل ترتكب فعل خلق عالم افتراضي يمكنك من خلاله البقاء على قيد الحياة؟
نعم.. الكاتب يرتكب فعل “خلق” بالمعنى المجازي، ولكنه فعل يائس في جوهره، ينشد من خلاله البقاء لا السيطرة، فالكاتب يعيد تشكيل عوالمه كما يرى، أو كما يتمنى أن يكون، وذلك ليفهم نفسه أولاً، والنجاة من أوجاعه التي تجسد آلام المجتمع، وربما لأن الكاتب يولد من رحم المعاناة، يأتي كتابه تعبيراً عن المعاناة، عبر آلام تجسد مخاض قلقه واغترابه وخيبة أمله بالمجتمع، وقدرته على التقاط التفاصيل الدقيقة، والشفافية في التعاطي مع الآخرين، والفرحة بولادة الكتاب هي تعبير عن نصر متجدد يعقب أو يواكب الألم والمعاناة.
الحرب اللاهبة
– هل تستمر الحرب أدبياً؟ ألا يموت البعض فيها؟ ألا يخرج بعضهم الآخر وقد خسروا كل شيء، حتى الحب؟ يوسف دعيس كيف كانت خسارتك الشخصية خلال الحرب؟
نعم وبقوة، وغالباً ما تكون أطول عمراً وأكثر تأثيراً من الحرب الواقعية، حينما تنتهي الحرب في الواقع يبدأ الأدب في البحث في رمادها، ولا يكتفي بتواريخ المعارك ولا يأبه بقادتها، بل يبحث في قلوب الأمهات الكسيرة، ووجوه الأطفال، وصمت الناجين من التهلكة، على الصعيد الشخصي خسارتي كانت كبيرة، فقد خسرت وطناً كان حري بساسته أن يأخذوه إلى مآلات
الحرية، وينحوا به إلى ذرى المجد، خسرت بعضاً من أهلي وأقاربي وأصدقائي وجيراني، خسرت بيتي بما فيه مكتبة عامرة بالكتب والمراجع، لكنني نجوت بنفسي وبعض أهلي من نيران الحرب اللاهبة، وحاولت بما أملك من خلال كتاباتي وعملي الصحفي أن أكون ضميراً حياً للناس والمقهورين والمظلومين على وجه الخصوص.
اللحظة العابرة
– كيف يضع الكاتب يوسف دعيس، ملامحه في جيب الحرف، ليختلس من نبضه، كلما اختنقت شرايينه؟
أعتقد أن الكاتب يخفي وجهه في جيوب الرواية أو القصة، ويتلطى في ظل مشهد عابر ليمرر شيئاً لا يحتمله الضوء، هو يكشف المسكوت عنه من وراء الكواليس، وحينما يكتب، يسرق الحروف من قلبه، كأنما يقول لحروفه: “كوني أنت لا أنا.. لكن احمليني في داخلك”، فالكاتب الحقيقي من يستطيع أن يسرق اللحظة العابرة ويمررها من القلب إلى القلب.
كلمة باقية
– هل ستكتب عن الحرب بعد أن انتهى كل شيء؟ وكيف تساعد الكتابة في مواساة الضحايا؟
لابد من البحث في رماد الحرب، علماً أن حربنا لايزال أوارها مستعراً، الناس يعانون ويلات حربنا التي أتت على الأخضر واليابس، وفتكت بالأبرياء، ودمرت كل شيء أمامها، أما عن الضحايا والتهجير، فالكتابة ليست مجرد عزاء، بل شهادة تتحول فيها الصرخة إلى كلمة باقية لا تُمحى، وأحيانا عدالة مؤجلة، وكما يقول الشاعر محمود درويش “من يكتب حكايته يرث أرض الكلام”
– قضيت أغلب سنوات حياتك في سوريا، وكتبت عنها، ما هي رؤيتك للوضع في البلد كمثقف قرأ التاريخ، وعاش تبعاته؟
الحديث عن سوريا هو حديث عن ألم إنساني عميق امتد لعقود طويلة، وجرح دامِ مازال يتدفق منذ أكثر من عقد، سوريا البلد الذي كان يتلمس خطا الديمقراطية، تعاور عليه الطغاة منذ بداية ستينيات القرن المنصرم إلى أن أحالوه دماراً، وبعد كل هذا القتل والدمار والتهجير، الذي ساعد في انتشار الجهل والفساد، وموجة تجار المخدرات والبشر وأمراء الحرب، لكن أملنا في من حمل لواء النصر عن إيمان عميق بالإنسان السوري القادر على الانبعاث من الرماد، المؤمن بوطن الحرية والكرامة، والقادر على بناء بلد مدمر.