الثورة – هبه علي
بعد أكثر من عقد من الصراع، تقف سوريا اليوم على أعتاب مرحلة يُمكن وصفها بـ”التعافي الحذر”.. مرحلة لا تقتصرعلى إعادة بناء الجدران والمباني، بل تتطلب إعادة بناء الإنسان، وإصلاح النسيج الاجتماعي، واستعادة الثقة بين الأفراد والمؤسسات، وبين الأفراد بعضهم ببعض.
تقول الباحثة الاجتماعية روز الجبيلي في حديثها لصحيفة الثورة: لقد خلفت الحرب آثاراً نفسية واجتماعية عميقة، امتدت لتشمل جميع الفئات، من أطفال نشؤوا في بيئات الصدمة، إلى شباب وجدوا أنفسهم بلا أفق، ونساء حملن أعباء مضاعفة، وعائلات تشتت أو فقدت المعيل، في هذا السياق، يصبح التعافي النفسي والاجتماعي أولوية وطنية لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي.
الصحة النفسية والمجتمعية
في رؤية تحليلية شاملة لإعادة بناء الإنسان السوري بعد عقد من النزاع ترى الباحثة الجبيلي أن آثار الحرب على صحة النفسية تكمن في:
1. اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بوصفه وباءً صامتاً.. إن أعداداً كبيرة من السوريين، خاصة في المناطق المتضررة أو في المخيمات، يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ومنها ذكريات اقتحامية، كوابيس متكررة، فرط يقظة وقلق مزمن، انسحاب اجتماعي.
أطفالٌ عاشوا القصف أو فقدوا أحد الوالدين، نساء تعرضن للعنف أو النزوح القسري، شباب فقدوا فرص التعليم والعمل.. جميعهم باتوا عرضة لتشوهات نفسية تحتاج لسنوات من الدعم المنهجي والمجتمعي لتجاوزها.
2. الاكتئاب والقلق: وجهان دائماً للحرب.. وفي إطار ذلك أكدت الباحثة الجبيلي أنه بحسب تقارير أممية ومحلية، تتزايد نسب الاكتئاب المزمن، خصوصاً بين النساء والشباب، الشعور بانعدام السيطرة على المستقبل، والقلق الاقتصادي، والصدمة من العنف، ولدت حالة عامة من التشاؤم، واللامبالاة، أو العنف الذاتي أحياناً.
“ولعل القلق العام أصبح من مكونات الشخصية السورية الجديدة، سواء بفعل التجارب المأساوية أو بسبب المستقبل الضبابي، وهو ما يؤثر في القدرة على اتخاذ القرارات، وتربية الأبناء، والتفاعل المجتمعي”.
3. تفكك العلاقات الاجتماعية والثقة بين الأفراد، وأشارت الباحثة إلى أنه قد تمزقت عائلات، وانقسمت مجتمعات، وتشوهت شبكات الدعم التقليدية التي كانت تمثل عنصر الأمان النفسي والاجتماعي.
الشك، الخوف، الانعزال، كلها أنماط سلوكية تُظهر مدى تآكل الروابط المجتمعية بعد سنوات من الاستقطاب والانقسام.
من يعتني بالناجين؟.
برأي الباحثة الجبيلي أن الفئات الأكثر تعرض للهشاشة هم: الأطفال: جراح تنمو مع الجسد، فقد نشأ أكثر من 5 ملايين طفل سوري تحت العنف والنزوح.. ويواجه هؤلاء الأطفال تأخراً في التطورالمعرفي والاجتماعي، صعوبات في التعليم والتركيز، مظاهر عدوانية أو انسحابية، فقدان الإحساس بالأمان والهوية.. فالأطفال هم الأكثر عرضة للتأثر طويل الأمد، ما لم تتوفر لهم برامج دعم منتظمة تراعي السياق الثقافي والصدمة.
وأشارت إلى أن نصف المجتمع السوري من فئة الشباب، لكنّهم الفئة الأكثر تيهاً وضياعاً، فهم أكثر من عانوا وعاشوا صدمات الحرب، فقدان فرص التعليم، غياب التوجيه، ما دفع الكثير منهم إلى الهجرة القسرية، الانخراط في اقتصاد الحرب، الانعزال أو الإدمان أو التطرف.
وترى الجبيلي أن الشباب يحتاج اليوم إلى استراتيجيات متكاملة من التعافي النفسي، الفرص الاقتصادية، التعليم مرن، ومساحات آمنة للابتكار والمشاركة.
أما بالنسبة للأمهات والناجيات والمهمشات.. “فهم نساء سوريا اللواتي تحملن الكثير من الأعباء من فقدان الأزواج أو الأبناء.” ورزخن تحت الإعالة القسرية في ظل غياب الدخل، والتعرض للعنف القائم على النوع الاجتماعي (الجنسي والنفسي والاقتصادي).
ومن هنا ينبغي القول: إن المرأة السورية اليوم ليست فقط ضحية، “بل مفتاح أساسي لأي مشروع تعافٍ حقيقي، إذا ما حصلت على الدعم، الحماية، والتمكين الفعلي.”
مقاربات العلاج والتعافي
وفي هذا السياق شددت الجبيلي على أمثل الحلول والتي تمكن في:
1- الرعاية النفسية المجتمعية، ويجب أن يتجاوز العلاج النفسي الإطار السريري، ليصبح متاحاً في المدارس، المراكز المجتمعية والجمعيات الأهلية، إذ يحتاج السوريون إلى بيئة يتلقون فيها الدعم النفسي من دون وصمة، وبطرق مبسّطة، تراعي الحساسية الثقافية
2- الفن كأداة للبوح وإعادة بناء الذات، وفي هذا السياق ذكرت الباحثة الجبيلي عدة تجارب ناجحة في عدة مناطق سورية استخدمت الرسم والموسيقا في دعم الأطفال، كما استخدمت الدراما والمسرح التفاعلي في تفريغ الصدمة لدى الشباب، وورش الكتابة والحكي لاستعادة القصص الفردية بشكل علاجي.. “فالفن ليس ترفاً، بل وسيلة للنجاة النفسية وإعادة تعريف الذات بعد الصدمة ”
3- الرياضة والأنشطة التشاركية، وبينت أن الرياضة أثبتت فعاليتها في تفريغ التوتر، تعزيز الانضباط الذاتي، بناء علاقات صحية وآمنة، تشجيع الاندماج المجتمعي.. فعلى سبيل المثال فإن أندية الشباب المحلية، والبطولات المجتمعية، والأنشطة المختلطة بين النازحين والمقيمين، ساعدت على كسر العزلة وتحفيز روح الحياة من جديد.
نحو سياسة وطنية للتعافي النفسي والاجتماعي
وأكدت الباحثة الجبيلي أن أي مشروع “إعادة إعمار” مادي، من دون خطة موازية للتعافي النفسي والاجتماعي، محكوم عليه بالفشل أو الهشاشة ولنجاح ذلك ينبغي:1. دمج الصحة النفسية في السياسات الصحية والتعليمية.2. تدريب مرشدين نفسيين مجتمعيين في كل بلدة ومنطقة.3. إطلاق حملات إعلامية تُكسر الوصمة المرتبطة بطلب الدعم النفسي.4. إشراك الناجين في تصميم البرامج العلاجية بأنفسهم.5. دعم الثقافة والفن كجزء من عملية الشفاء.6. إنشاء مرصد وطني للصحة النفسية والاجتماعية بعد الحرب.
وذكرت الباحثة شهادات ميدانية واقعية.. طفلة (9 سنوات) – ريف إدلب.. “كنت أخاف من صوت الطيارة… كلما سمعت صوتاً عالياً، أختبئ تحت السرير.. الآن بالمدرسة الجديدة، نرسم، نحكي عن القصص، وصارت ماما تبتسم أكثر.
“أم لثلاثة أطفال – حلب.. ” كنت أعيش في صمت، فقدت زوجي وأهلي، وما كنت أعرف كيف أتكلم، لما دخلت مركز الدعم، حكيت، وبكيت، وتعلمت كيف أسمع أولادي، وكيف أبدأ من جديد.
“شاب جامعي – دمشق.. “كنا نظن أنه ما في مجال نعيش طبيعي بعد اللي مرينا فيه.. بس بفضل جهود بعض الجمعيات وبرامج الدعم اللي قدموهن قدرت أرجع أشارك، أكتب، أتكلم، وألاقي ناس تشبهني بتحاول تتشافى مثلي”.
معلمة متطوعة.. “الأطفال كانوا يضربون بعضهم، ما يعرفوا يضحكوا. لكن لما عملنا عروضاً مسرحية، صاروا يضحكوا، يمثلوا، حتى يرسموا أحلامهم… هذا لحاله شفاء”.
الوجع لا يُمحى… لكنه يروى ويرمم
وتختم الباحثة الجبيلي حديثها: في بلاد تشظى فيها كل شيء، يحتاج الناس إلى أكثر من مساعدات غذائية، إنهم بحاجة إلى من يسمعهم، يفهمهم، يرافقهم في الطريق الطويل نحو الشفاء.. ” فالتعافي لا يفرض من فوق، بل يبنى من الأسفل، من قصص الناس، من نبض الشوارع، من لحظة بكاء طفل وجد أخيراً مكاناً آمناً ليلعب”.
إننا اليوم أمام فرصة، وربما مسؤولية تاريخية، كي نعيد تعريف سوريا ليس كأرض للأنقاض، بل كوطن للنجاة، والكرامة، والإنسانية.