حين تغذي الخوارزميات الشائعات.. هل يكرّس الذكاء الاصطناعي تحيزّنا؟

الثورة – بسام مهدي

في عصر الذكاء الاصطناعي، لم تعد الشائعات مجرد أحاديث عابرة أو منشورات مغلوطة، بل أصبحت تغذَّى وتُوجَّه بأنظمة ذكية قادرة على تضخيم الانحيازات الفردية وتحويلها إلى موجات جماعية من التضليل، فبينما يُفترض أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي أدوات محايدة لتحسين حياتنا، تُظهر التجربة اليومية أنها في كثير من الأحيان تُستخدم لتغذية التحيّز التأكيدي، وهو الميل النفسي للناس إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم المسبقة، وتجاهل ما يخالفها.

الشائعات المدعومة خوارزمياً

في زمنٍ لم تعد فيه الشائعات تنبت عشوائياً، بل تُروى وتُسمّد بخوارزميات ذكية، تبدو الحقيقة وكأنها تدخل في منافسة غير متكافئة، فالخوارزميات التي تدير منصات التواصل الاجتماعي، مثل “خوارزمية فيسبوك” أو “تيك توك”، لا تميّز بين خبر موثوق وآخر مفبرك، إنما تتغذى على ما يُثير النقرات ويُطيل زمن التفاعل. وهنا تكمن المعضلة، إذ وجدت الشائعات المعززة بتحيّزات المستخدمين بيئةً مثالية للنمو، فكلما شارك المستخدمون محتوى يُعبّر عن قناعاتهم المسبقة، كرّرته الخوارزميات ووسعته على نطاق أوسع، باعتباره محتوى “مرغوباً” إحصائياً، لا “صحيحاً” بالضرورة. وبهذا، تتحوّل الخوارزميات من أدوات توصية إلى غرف صدى رقمية، تعزز الانقسامات وتؤطر الحقيقة ضمن حدود “ما نرغب بتصديقه” بدلاً من “ما ينبغي علينا معرفته”.

ما “التحيّز التأكيدي”؟

إن التحيّز التأكيدي (Confirmation Bias) هو أحد أشهر أنماط التحيّز المعرفي، إذ يميل الأفراد إلى تصديق المعلومات التي تتماشى مع آرائهم أو معتقداتهم السابقة، حتى وإن كانت خاطئة أو غير دقيقة، في ظل وجود الذكاء الاصطناعي في قلب محركات البحث، ومنصات التواصل الاجتماعي، وأنظمة التوصية، أصبح هذا التحيّز يتكرّس بشكل آلي، لا شعوري، بل وممنهج أحياناً.

كيف تعزز خوارزميات الذكاء الاصطناعي هذا التحيّز؟

تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي في المنصات الكبرى مثل فيسبوك، يوتيوب، وتيك توك على تحليل تفضيلات المستخدمين وسلوكهم السابق، لتقديم محتوى “مشابه” لما تفاعلوا معه، هذه الخوارزميات لا تهدف إلى تقديم الحقيقة، بل إلى إبقاء المستخدم متفاعلاً لأطول فترة ممكنة، حتى ولو تطلّب الأمر إغراقه بالمحتوى المنحاز، أو حتى المضلّل. وفي ظل هذه الآلية، يصبح المستخدم محاطاً بفقاعة معرفية، يرى فيها فقط ما يوافق معتقداته، بينما يتم تجاهل أو تقليل ظهور الآراء المخالفة، وهكذا، تتحول الشائعات إلى “حقائق بديلة”، لا لأنّها صحيحة، بل لأن الخوارزميات قررت أن ما نؤمن به هو ما يجب أن يُعرض علينا.

نتائج مقلقة على المجتمع والوعي العام

يشكّل هذا النمط خطراً كبيراً على الوعي الجماعي، فبدلاً من أن تُستخدم التقنيات الحديثة لنشر المعرفة والحقائق، نجدها في بعض الأحيان تكرّس الجهل والانقسام. في بيئات مشحونة سياسياً أو اجتماعياً ، حيث يمكن لهذه “الخوارزميات المتحيّزة” أن تزيد من انتشار الأخبار الزائفة، ونظريات المؤامرة ، بل وحتى خطاب الكراهية. في سوريا، كما في بقية دول العالم، تنتشر الشائعات الرقمية عبر مجموعات الواتساب وصفحات الفيسبوك، مدفوعة بانحيازات الجمهور، ومتضخّمة بفعل توصيات الذكاء الاصطناعي، من دون رقابة كافية أو وعي مجتمعي حقيقي.

التأثيرات المجتمعية والاقتصادية

أولاً، من الناحية الاجتماعية، تؤدي هذه الظاهرة إلى استقطاب حاد في الرأي العام، إذ يتجمّع المستخدمون ضمن “فقاعات معلوماتية” تؤكد شكوكهم ولا تُعرض عليهم وجهات نظر مختلفة.ثانياً، من الناحية الاقتصادية، إذ تؤثر الشائعات القائمة على التحيز التأكيدي في سلوك المستهلكين والاستثمار، على سبيل المثال، انتشار الشائعات عن تدهور في سعر الصرف، يدفع البعض إلى سحب مدخراتهم وتحويلها، ما يفاقم الضغط على السوق دون مبررات حقيقية.ثالثاً، من الناحية الوظيفية، حيث تؤدي بعض الشائعات المغلوطة، كإشاعة التسريح الجماعي في المؤسسات الحكومية، تسبب في تراجع الإنتاجية وخلق حالة من عدم الاستقرار الوظيفي.

أين يكمن الخطر؟

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الشائعة نفسها، بل في البنية الرقمية التي تسمح لها بالنمو المتسارع.. ففي بيئة يسيطر عليها منطق “ما يثير يربح”، تتحول الشائعة إلى أصل رقمي مربح، وتُضخّم بأدوات الذكاء الاصطناعي مثل تقنيات “التزييف العميق” (Deepfake) أو المحتوى التوليدي، هذه الأدوات لم تعد حكراً على الدول أو الشركات الكبرى، بل بات بإمكان أي شخص لديه هاتف متوسط القدرة إنشاء فيديو مقنع يغيّر مجرى الرأي العام مؤقتاً، أو يُثير الفتنة، أو يزعزع الثقة بالمؤسسات الحكومية، في هذا السياق، تفقد الحقيقة جاذبيتها، لأنها غالباً معقّدة وبطيئة ولا تولّد نفس الحجم التفاعلي الذي تولّده الأكاذيب المدعومة بالتحيّز والابتكار التقني.

كيف يمكننا كصحفيين ومواطنين مواجهة هذا التحيّز؟

أولاً، يجب التحقق من المعلومات دائماً، ولا تكفِ إعادة النشر دون التحقق من المصدر.

ثانياً، كسر الفقاعات المعرفية بأن تقرأ آراءً مختلفة، حتى لو خالفت معتقداتك.

ثالثاً، علينا بالضغط من أجل خوارزميات مسؤولة، حيث يجب مساءلة شركات التقنية حول تأثير تقنياتها على الخطاب العام.

رابعاً: لابد من التثقيف الإعلامي بإدخال مفاهيم التربية الإعلامية والرقمية في التعليم، لتدريب الأفراد على التفكير النقدي، و تعزيز التعليم والتدريب الأخلاقي في مجال الذكاء الاصطناعي حيث يعد أمراً ضرورياً أيضاً، ويضم تثقيف ممارسي الذكاء الاصطناعي والمطورين والمستخدمين حول الآثار المترتبة على التحيز وكيفية معالجته، ولابد من البحث والتطوير لأدوات ومكتبات تخفيف التحيز، وكذلك اعتماد تقييمات تأثير التحيز الموحدة لمساعدة الشركات على قياس التأثير المحتمل لأنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها على المجموعات السكانية المختلفة.

 

أداة لمحاربة الشائعات

عندما تتكرّس الشائعات بسبب توصيات آلية، عندها يصبح للذكاء الاصطناعي دور خطير في خلق فقاعات معلوماتية، فإننا حينها لا نواجه فقط معلومات خاطئة، بل نظام يكرّس الخداع من دون قصد.

ويشير معهد رويترز لدراسة الصحافة، في تقريره الأخير إلى أن 74 بالمئة من المشاركين في استطلاع عالمي يعتقدون أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر الأول للمعلومات المضللة، خصوصاً تلك التي تغذّي تحيّزاتهم.

إن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، وهو ليس خصمنا، بل تكمن المشكلة في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن لهذه التقنيات أن تصبح أدوات لمحاربة الشائعات، لا لنشرها، إذا صُمّمت واستخدمت بمسؤولية، ويبقى على الصحفيين، والمجتمع، والمشرّعين، أن يتعاونوا لضمان أن يظل الفضاء الرقمي مكاناً للحقيقة، لا مرتعاً للانحياز والتضليل.

آخر الأخبار
"الأمم المتحدة" : مليون  سوري عادوا لبلادهم منذ سقوط النظام البائد  "إسرائيل " تواصل مجازرها في غزة.. وتحذيرات من ضم الضفة   "فورين بوليسي": خطاب الرئيس الشرع كان استثنائياً بكل المقاييس  فوز ثمين لليون وبورتو في الدوري الأوروبي برشلونة يخطف فوزاً جديداً في الليغا سلة الأندية العربية.. خسارة قاسية لحمص الفداء  رقم قياسي.. (53) دولة سجّلت اسمها في لائحة الميداليات في مونديال القوى  مع اقتراب موسم قطاف الزيتون.. نصائح عملية لموسم ناجح "جامعة للطيران" في سوريا… الأفق يُفتح بتعاون تركي "التربية والتعليم" تعلن آلية جديدة لتغيير أسماء بعض المدارس مدارس حلب تستقبل طلابها بحلّة جديدة الشرع يلتقي ملك إسبانيا ورئيس الوزراء الهولندي في نيويورك "حقائب ولباس مدرسي".. مبادرة أهلية تخفّف أوجاع العام الدراسي تطوير البرامج الإنسانية والتنموية في حلب  أونماخت: مشاركة سوريا بالأمم المتحدة تفتح الباب لمرحلة جديدة  وزير الصحة يفتتح مركز معالجة الأورام السرطانية في درعا  تراجع إنتاج الزيتون في حماة بنسبة40 بالمئة بسبب الجفاف  هل حققت "مهرجانات العودة للمدرسة" الجدوى والهدف؟  الحوكمة في سوريا.. ركيزةٌ غائبةٌ لريادة الأعمال وفرصةٌ لمستقبل زاهر  إدلب تستعيد نبضها.. مبادرة "الوفاء لإدلب" تكتب فصلاً جديداً