الثورة – هنادة سمير:
مع بداية العام الدراسي، لم يكن المشهد أمام إحدى مدارس العاصمة عادياً، عند البوابة، اصطفت عشرات الأمهات بانتظار أبنائهن، لكن ما شدّ انتباه إحدى الأمهات أن عدداً من التلاميذ خرجوا حاملين أكياس نايلون بدل الحقائب المدرسية، وآخرين من دون لباس مدرسي، اقتربت والدة من أحد الأطفال وسألته: لماذا لا يحمل حقيبته، فأجاب بخجل: “بابا أول ما يكون معه مصاري رح يجيبلي حقيبة وصدرية”.
كلمات صغيرة لكنها كانت كافية لتفتح جرحاً عميقاً عن واقع آلاف الأسر التي تعجز عن توفير الحد الأدنى من مستلزمات أبنائها التعليمية، ومع مرور المعلمة التي التقطت الحوار، جاءت الفكرة بسيطة وملحّة في الوقت ذاته. وسألت الطلاب في اليوم التالي: من منكم عنده حقيبة قديمة، أو لباس مدرسي نظيف فليحضره الى المدرسة، كثير من الأطفال يحتاجون إليها.
ولادة مبادرة
لم يتوقّع أحد أن يتحول موقف فردي إلى نداء إنساني، لكن الأم التي روت الحادثة على صفحات التواصل الاجتماعي لم تكن تنقل مشهداً عابراً، بل دعوة مباشرة: من منّا لا يملك حقيبة قديمة، أو مقلمة لم تعد قيد الاستعمال، لنضعها في المدرسة، وليتبرع من استطاع بحقيبة أو صدرية جديدة، فهذا أبسط ما يمكن أن نقدمه للأطفال.
وسرعان ما لاقت الدعوة صدى واسعاً بين الأهالي، فالتعليقات امتلأت بعبارات التأييد، وكثيرون أعلنوا استعدادهم لتجميع المستلزمات من بيوتهم وتقديمها للمدارس القريبة، بعض الجمعيات الأهلية أيضاً التقطت المبادرة، وبدأت التحضير لحملات محدودة لتوزيع الحقائب والصدريات.
حلم مؤجل
المشهد الذي بدا مؤثراً هو في حقيقته انعكاس لواقع اقتصادي ضاغط، فتكلفة المستلزمات المدرسية باتت تفوق قدرة الكثير من الأسر، خاصة تلك التي تعيش على دخل محدود، فالأسعار المرتفعة للقرطاسية والملابس جعلت من الحقيبة المدرسية حلماً مؤجلاً، فيما يضطر أطفال كُثر إلى حمل أكياس نايلون أو أكياس قماشية بديلة، وهو ما يترك أثراً نفسياً سلبياً في نفوسهم.
الخبيرة التربوية سوسن السهلي بينت في حديثها لـ”الثورة” أن الطفل الذي يذهب إلى المدرسة من دون حقيبة أو صدرية يشعر بالنقص مقارنة بزملائه، وهذا ينعكس على اندماجه في الصف وعلى تحصيله الدراسي، فالمسألة ليست مجرد قطعة قماش أو جلد لحمل الدفاتر، بل شعور بالانتماء والكرامة.. عندما نمنح الطفل حقيبة نظيفة ولو بسيطة، فإننا نمنحه ثقة بنفسه وإحساساً بالمساواة.
وتضيف: من المهم أن تتبنى المدارس مثل هذه المبادرات، وأن يُشجَّع الأهالي على تقديم ما لا يحتاجونه، فهذا نوع من التربية على قيم التكافل الاجتماعي التي نحن بأمسّ الحاجة إليها بعد سنوات الحرب وما خلّفته من أعباء.
أثر كبير
ليست هذه المبادرة الأولى من نوعها، ففي أكثر من حيّ، لجأ الأهالي إلى حلول مشابهة لمساعدة أطفال الجيران، بعض المدارس خصصت صندوقاً في الإدارة لجمع التبرعات العينية من الأهالي.. حقائب، لباس، مقالم، وحتى أحذية مدرسية، وبحسب شهادات بعض المعلمات، فإن مجرد حصول الطفل على حقيبة جديدة حتى وإن كانت مستعملة سابقاً كفيل بأن يزرع الفرح في قلبه ويجعله يشارك زملاءه بحماس.
وتقول إحدى الأمهات المشاركات في المبادرة: بيتي مليء بالحقائب القديمة لأولادي الكبار، وكنت متحيرة ماذا افعل بها، فلما سمعت النداء، شعرت أن لدي فرصة لإعطائها لأطفال هم بحاجة إليها هذا يعطيني الشعور بالسعادة لأجلهم.
تؤكد الخبيرة السهلي أن مثل هذه المبادرات تحمل قيمة معنوية كبيرة تفوق قيمتها المادية، فهي تعيد إلى المجتمع حسّ التضامن وتمنح الأطفال إحساساً بأنهم غير متروكين لوحدهم، كما تساعد على خلق وعي جمعي أن التعليم حق للجميع، وأن مسؤولية تحقيقه لا تقع على الدولة وحدها بل على المجتمع ككل.
وفيما قد تبدو حقيبة أو صدرية أمراً بسيطاً، إلا أن أثرها يتجاوز الشكل الخارجي.. فالطفل الذي يذهب إلى المدرسة وهو يشعر أنه يشبه زملاءه، يزداد حماسه للتعلّم ويخفّ لديه الإحساس بالحرمان، وهذا ما يجعل من التكافل في التعليم استثماراً طويل الأمد في المستقبل.
دعوة مفتوحة
اليوم، يتردد صدى هذه الدعوة في أحياء عديدة، مدارس كثيرة بدأت بتخصيص ركن صغير لجمع الحقائب أو اللباس المدرسي التي لم تعد قيد الاستخدام، وفي المقابل، هناك أطفال يدخلون صفوفهم بوجوه أكثر إشراقاً بفضل مساهمة بسيطة من جيران أو غرباء.
إنها مبادرة صغيرة ووليدة موقف عابر، لكنها تعكس حاجة كبيرة، فالأطفال الذين يحلمون بمقلمة أو حقيبة لا يطلبون ترفاً، بل أبسط حقوقهم في التعليم، ومن هنا، فإن كل مساهمة – مهما بدت متواضعة – قادرة على أن تغيّر حياة تلميذ، وربما ترسم ملامح مستقبل مختلف.
قد تكون الحقيبة القديمة التي ركنت في زاوية البيت بلا قيمة لأحد، لكنها في يد طفل محتاج تتحول إلى مفتاح للكرامة والأمل، وهنيئاً لفاعل الخير، كما يقول المثل الشعبي، الذي يعرف كيف يزرع بسمة في وجه صغير.