الثورة – علا محمد:
مع أول خيوط الفجر، يختلط صوت الماعز بنسيم الجبال البارد، وتتسلل رائحة الحليب الطازج من فناء بيت حجري صغير، فيما تتدلى على الجدار المقابل حبالٌ طويلة من أوراق التبغ الذهبية، وكأنها عقود من الشمس.
هنا، في قلب جبال الساحل، لا تقاس الثروة بما يملكه الناس من مال، بل بما تصنعه أيديهم من خيرات تحمل في طياتها طعم الأرض وعبقها.
الجبن والقريشة.. زينة المائدة
في أحد البيوت البسيطة على أطراف القرية، استقبلتنا عائلة مخلص معلا أبو يوسف بابتسامة دافئة، هذه العائلة التي تعيش على تربية قطيع من الماعز، تبدأ حكايتها مع شروق الشمس، حين يقود أبو يوسف القطيع نحو المراعي القريبة، وفي المساء، يعود القطيع إلى الحظيرة، مساحةٌ ترابية مسقوفة بالقش والخشب، تتوزع فيها الماعز بألوانها وأحجامها المختلفة، من الصغيرة الرشيقة إلى الكبيرة ذات القرون الملتفة، في مشهد يضج بالحياة.
بعد العودة، يجلس أبو يوسف على مقعد خشبي صغير ليحلب الماعز، ومن الحليب الدافئ، تصنع زوجته الجبن الأبيض، والقريشة، والزبدة، واللبن البلدي، والشنكليش، في عملية تجمع بين الأصالة والنظافة.
وتوضح أم يوسف أن منتجات الماعز تتميز بدسامتها العالية وقيمتها الغذائية، وهي في الأسواق أغلى من نظيرتها البقرية، لكنهم يصرّون على بيعها بنفس أسعار منتجات الأبقار، مراعاة لأهل القرية وزبائنهم، فكـيلو الجبن عندهم يباع بـ36 ألف ليرة، وكيلو الشنكليش بـ100 ألف، وكيلو الزبدة بـ60 ألفاً. وتقول: “نأكل من منتجاتنا ونبيع منها للقرية والقرى المجاورة، بأسعار تناسب الجميع، الأهم أن الناس يعرفون مصدرها، ويثقون أنها طبيعية، بلا مواد حافظة أو ألوان، فقط طعم الريف الأصيل”.
التبغ البلدي.. مهنة الأجداد
لا يقتصر عمل أهل القرية على المنتجات الغذائية فحسب، بل يمتد لتجفيف وبيع أوراق التبغ والغار، ففي البيت المجاور، تتدلى أوراق التبغ من حبال طويلة، يراقبها صاحبها مظهر معلا بعين الخبير، قائلاً: “تعلمت هذه المهنة من أبي، وأبي تعلمها من جدي، نزرع التبغ، نقطفه، ثم نعلقه ليجف تحت الشمس والهواء، بلا أي مواد كيميائية، فقط صبر الريفيين وخبرتهم.
ويضيف بابتسامة راضية: التبغ مصدر رزق قديم في منطقتنا، عمله شاق خاصةً في الصيف، لكنه يعيل أسرنا، ويموّل تعليم أولادنا، ويساعدنا في إصلاح البيوت، فالتبغ البلدي أنقى من المستورد، ورائحته يعرفها أهل الخبرة من أول نفس، وهذا ما يجعله مطلوباً أكثر من غيره.
أوراق الغار.. عطر الطبخ
ومن بين الأشجار الجبلية، أخبرتنا الجدة نبيلة أنها تجمع أوراق الغار بعناية، وتتركها لتجف في الظل حتى تحافظ على لونها ورائحتها النفاذة، تقول بابتسامة: ورق الغار عطر الطبخ، ونكهة الأكل ناقصة من دونه، نجمعه في مواسمه ونبيعه في الأسواق، فالطهاة يعرفون قيمته. رغم جمال هذه الحرف وقيمتها التراثية، يواجه أهل القرية تحديات كبيرة في زمن الأزمات الاقتصادية وارتفاع تكاليف الإنتاج، ومع ذلك، يصرون على الاستمرار، لأنهم يدركون أن ما يقدمونه ليس مجرد طعام أو منتج، بل هو امتداد لروح المكان وذاكرته، يبيعون ما يصنعون كجزء من قصصهم التي كتبت بالكدّ والصبر، في زمن تتشابه فيه المدن وتتسارع وتيرتها، ليبقى الريف محتفظاً بفرادته، حارساً للنكهة التي لا تصنعها المصانع، ولرائحة الأرض التي تعلّمك أن الرزق الحقيقي هو ما يزرعه قلبك قبل يديك.