قلعة حلب .. ليلة موعودة تعيد الروح إلى مدينة التاريخ

الثورة – جهاد اصطيف:

على وقع الأناشيد والأنغام التراثية، عاشت مدينة حلب ليلة استثنائية، تزامنت مع اليوم العالمي للسياحة، وشهدت القلعة الأثرية، إحدى أقدم وأكبر القلاع في العالم، احتفالاً مهيباً بمناسبة إعادة افتتاحها بعد أعمال ترميم وتجميل واسعة شملت القلعة ومحيطها. المبادرة جاءت من وزارتي السياحة والثقافة، بالتعاون مع محافظة حلب، لتتحول المناسبة إلى ما يشبه عرساً وطنياً، جمع بين البعد الرمزي والتاريخي والثقافي، وسط حضور رسمي وشعبي واسع امتد على مدار يومين في مدرج القلعة التاريخية.

افتتاح القلعة لم يكن مجرد حدث سياحي عابر، بل شكل محطة فارقة في مسار تعافي المدينة، ورسالة للعالم بأن حلب، رغم الجراح، ما زالت تقف شامخة مثل قلعتها، وأنها قادرة على النهوض من تحت الركام لتستعيد مكانتها كحاضرة للتاريخ والحضارة والإنسان.

حضرة التاريخ

في مستهل الحفل، تحدث وزير الثقافة محمد ياسين الصالح: إن قلعة حلب صرح من صروح حضارتنا الشامخة، وافتتاحها إشارة إلى التعافي والصمود، مشيراً إلى أن ثقافتنا الأصيلة عصية على الطمس، رغم كل ما ألم بها خلال حقبة الحديد والنار والديكتاتورية.

من جانبه، توجه وزير الطوارئ وإدارة الكوارث رائد الصالح بكلمات مؤثرة إلى أهالي المدينة قائلاً : أشكر أبطال حلب الشجعان الذين قدموا تضحيات عظيمة، و لولا دماؤهم لما كنا اليوم هنا في قلعة حلب، لافتاً إلى أن حلب حاضرة من حواضر التاريخ، ويليق بها الفرح اليوم وكل يوم.

محافظ حلب عزام الغريب نقل تحيات رئيس الجمهورية السيد الرئيس أحمد الشرع إلى أهالي المدينة قائلاً : جولة الرئيس الشرع في حلب انتهت، ولم يتمكن من حضور افتتاح قلعة حلب، فحمّلني السلامات الحارّة لحلب وأهلها، ووعد بزيارة قريبة لها.

وأضاف: إن قلعة حلب ليست حجارة صامتة، بل ذاكرة ناطقة، ومن على مدرجاتها مر الغزاة واندحروا، ومن على أسوارها كتبت رسائل المجد بالحبر والدم والنور، وإن في كل زاوية من زوايا قلعة حلب هناك قصة، وفي كل نقش هناك رسالة أن حلب لا تنكسر، وأنها إذا غابت تعود، وإذا تهدمت تبنى من جديد، نعيد افتتاح أبواب القلعة، للتاريخ وللفخر وللأمل، نعيد فتحها لنقول للعالم، هنا حلب.

بدوره، تحدث ممثل وزارة السياحة زياد البلخي عن دلالات هذه المناسبة قائلاً : “حلب تنبض بالحياة والثقافة رغم كل التحديات، وقلعتها تجمع بين المجد والعراقة والصمود والتحدي والانتصار والتاريخ، مضيفاً: إن كل زاوية في حلب تحكي قصة سوريا، وحضارة عمرها آلاف السنين، والسياحة رسالة سلام وفخر بما نملك من إرث وتنوع وجمال.

كما أكد معاون محافظ حلب حازم لطفي، أن المناسبة تحمل بعداً عالمياً، قائلاً: إن افتتاح قلعة حلب اليوم جاء تزامناً مع اليوم العالمي للسياحة، هذه القلعة التي تقف شامخة منذ آلاف السنين، وشاهدة على صمود حلب، منوهاً بأن قلعة حلب رسالة متجددة بأن هذه المدينة التي عمرها 12 ألف عام قادرة على النهوض والعودة لأن تكون قبلة للزوار من كل أنحاء العالم.

بين التراث والفن

لم يقتصر الحفل على الكلمات الرسمية، بل تضمن برنامجاً فنياً وثقافياً ثرياً، وافتتح معرض للمنتجات التراثية، رافقه عزف منفرد وكورال سرياني، قبل أن يبدأ البرنامج الرسمي بعرض “برومو”عن السياحة في سوريا وحلب، وعن عمليات إعادة تأهيل القلعة، كما تضمن العرض توثيقاً لمسيرة عدد من فناني حلب الراحلين، الذين شكلوا جزءاً من ذاكرة المدينة الموسيقية والفنية.

واختتم الفنان عبد الكريم حمدان الحفل بوصلة غنائية، رافقها العزف المنفرد على آلة القانون للفنان يامن الجذبة، في لوحة جمعت بين أصالة التراث وبهجة اللحظة، لتتحول الأمسية إلى احتفالية جامعة، جسدت روح حلب المتجددة.

“رح ترجع أحلى”

تزامناً مع انتهاء أعمال التجميل والصيانة في القلعة ومحيطها، كانت محافظة حلب قد أطلقت نداءً عاماً إلى أهالي المدينة وزوارها للتعاون مع الجهات المعنية في حملة شاملة لمعالجة المخالفات والمظاهر العشوائية، وضبط مداخل ومخارج القلعة، وذلك في إطار مشروع “رح ترجع أحلى” الهادف إلى إعادة الاعتبار للمدينة القديمة ومعالمها التاريخية .

وأكدت المحافظة في بيانها، أن القلعة ليست مجرد معلم أثري، بل رمز للشموخ والصمود والعراقة، والحفاظ عليها مسؤولية جماعية لا تقع على عاتق المؤسسات الرسمية وحدها، وإنما تحتاج إلى تعاون الأهالي والباعة والزوار مع الفرق المختصة.

ولفتت المحافظة إلى أنه خلال فصل الصيف، تم إفساح المجال للناس للاستمتاع بالمكان من دون قيود، لكن المرحلة الجديدة تتطلب تنظيماً أكبر، يضمن جمالية الموقع ويعكس الوجه الحضاري لحلب أمام زوارها .

رؤية هندسية وتنظيمية

المشرفون على المشروع أوضحوا أن أعمال التجميل شملت تنظيف الممرات، إعادة تأهيل بعض الأبراج، وصيانة الأرضيات الحجرية داخل القلعة، فيما تركز المرحلة المقبلة على تطوير محيط القلعة، الذي يمثل نقطة جذب رئيسية للزوار.

وأكدوا أن العمل لا يقتصر على الترميم المادي، بل يشمل رؤية عمرانية متكاملة تضمن انسجام الموقع مع نسيج المدينة القديمة، بما يحقق تجربة سياحية مميزة، ويمنح الزوار شعوراً بالراحة والأمان.

ويرى الخبراء أن تنظيم محيط القلعة، سينعكس مباشرة على الحركة السياحية، لكون أي زائر يصل إلى حلب يضع القلعة في مقدمة أولوياته، وبالتالي، فإن تحسين المشهد البصري والتنظيمي حول القلعة يشكل بطاقة تعريف إيجابية بالمدينة ككل.

بين الماضي والحاضر

قلعة حلب ليست مجرد مبنى أثري، بل سجل حي يروي مسيرة المدينة عبر العصور. فهي قائمة على تل مرتفع وسط المدينة، وتعود أصولها إلى آلاف السنين، حيث تعاقبت عليها حضارات متعددة، جعلتها مركزاً دفاعياً وعسكرياً وإدارياً .

ورغم ما لحق بها من أضرار خلال سنوات الحرب الأخيرة، بقيت القلعة شامخة، حاضنة لذاكرة المدينة وأهلها.

ويؤكد المؤرخون أن إعادة تأهيل القلعة لا تعني مجرد ترميم حجارة، بل إعادة وصل ما انقطع بين المدينة وتاريخها، وإحياء جزء من الهوية الثقافية التي شكلت روح حلب عبر الأجيال.

المؤرخون يعتبرون أن القلعة تمثل نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، وإن استعادة الحلبيين لها ليست حدثاً عمرانياً فحسب، بل فعل مقاومة ثقافية ومعنوية، يعزز انتماءهم إلى مدينتهم.

أثر المشروع على المدينة

المهندسون والخبراء السياحيون يرون أن مشروع إعادة تنظيم القلعة ومحيطها، سيترك أثراً مضاعفاً على المدينة القديمة بأكملها. فإلى جانب كونها مركز جذب منظم للسياح، ستتحول القلعة إلى نقطة انطلاق لإعادة تأهيل الأسواق التاريخية المجاورة مثل سوق الزرب وسوق السقطية، ما يعيد إليها الحياة التجارية والسياحية.

التجارب العالمية تثبت أن الاستثمار في المواقع الأثرية الكبرى، يفتح المجال أمام استثمارات ثقافية وفنية واسعة، تشمل المهرجانات والمعارض والحفلات الموسيقية، وهو ما تسعى حلب إلى تحقيقه في مرحلة التعافي، عبر تحويل القلعة إلى منصة للحياة الثقافية والفنية، تعكس وجه المدينة الجديد الذي يجمع بين التراث والحداثة.

بعد رمزي وثقافي

من الناحية الرمزية، يشكل افتتاح القلعة إعلاناً عن عودة الروح إلى حلب، فهي ليست فقط صرحاً أثرياً أو سياحياً، بل رمز لصمود المدينة وقدرتها على النهوض، فالقلعة، بما تحمله من قصص وحكايات منقوشة على جدرانها وأبراجها، تجسد رسالة متجددة بأن حلب لا تنكسر، وأنها إذا غابت تعود، وإذا تهدمت تبنى من جديد.

كما أن الحدث يعزز مكانة السياحة الثقافية في سوريا، باعتبارها رافعة اقتصادية وإنسانية، ورسالة سلام إلى العالم. فالسياحة ليست مجرد ترفيه، بل فعل تعارف وتواصل بين الشعوب، وتأكيد على أن سوريا، رغم الأزمات، ما زالت تمتلك ما تقدمه للإنسانية من إرث حضاري وجمالي.

نحو مستقبل جديد

ليلة افتتاح قلعة حلب لم تكن مجرد مناسبة احتفالية، بل نقطة انطلاق لمرحلة جديدة في مسار المدينة، فالمشروع الذي بدأ بالقلعة مرشح ليشمل المدينة القديمة وأسواقها ومساجدها وكنائسها، بما يحول المنطقة إلى فضاء سياحي وثقافي متكامل.

الأمل يحدو أبناء حلب أن تتحول قلعتهم، التي شهدت على الغزاة والمحن، إلى منصة للفرح والإبداع، وأن تكون رافعة اقتصادية تدعم معيشة الأهالي وتعيد للمدينة ألقها الذي عرفت به عبر التاريخ.

تصوير- صهيب عمراية

آخر الأخبار
قلعة حلب .. ليلة موعودة تعيد الروح إلى مدينة التاريخ "سيريا بيلد”.  خطوة عملية من خطوات البناء والإعمار قلعة حلب تستعيد ألقها باحتفالية اليوم العالمي للسياحة 240 خريجة من معهد إعداد المدرسين  في حماة افتتاح معرض "بناء سوريا الدولي - سيريا بيلد” سوريا تعود بثقة إلى خارطة السياحة العالمية قاعة محاضرات لمستشفى الزهراء الوطني بحمص 208 ملايين دولار لإدلب، هل تكفي؟.. مدير علاقات الحملة يوضّح تطبيق سوري إلكتروني بمعايير عالمية لوزارة الخارجية السورية  "التربية والتعليم" تطلق النسخة المعدلة من المناهج الدراسية للعام 2025 – 2026 مشاركون في حملة "الوفاء لإدلب": التزام بالمسؤولية المجتمعية وأولوية لإعادة الإعمار معالم  أرواد الأثرية.. حلّة جديدة في يوم السياحة العالمي آلاف خطوط الهاتف في اللاذقية خارج الخدمة متابعة  أعمال تصنيع 5 آلاف مقعد مدرسي في درعا سوريا تشارك في يوم السياحة العالمي في ماليزيا مواطنون من درعا:  عضوية مجلس الشعب تكليف وليست تشريفاً  الخوف.. الحاجز الأكبر أمام الترشح لانتخابات مجلس الشعب  الاحتلال يواصل حرب الإبادة في غزة .. و"أطباء بلا حدود" تُعلِّق عملها في القطاع جمعية "التلاقي".. نموذج لتعزيز الحوار والانتماء الوطني   من طرطوس إلى إدلب.. رحلة وفاء سطّرتها جميلة خضر