رصاص المناسبات.. لعنة مميتة تهدد أمن المجتمع

الثورة – لينا شلهوب:

في لحظة يفترض أن تكون مفعمة بالسعادة والبهجة، يتحول مشهد الاحتفال إلى صدمة، وصوت الغناء والزغاريد إلى صرخات هلع واستغاثة، هكذا يحدث عندما تُخترق سماء الأفراح بأزيز الرصاص، ويغدو الاحتفال مناسبة مأساوية، ولاسيما حين يسقط أحدهم برصاصة طائشة لا تفرق بين قريب أو غريب.

إنها ظاهرة إطلاق العيارات النارية في المناسبات، التي ما زالت تقتات على أرواح الأبرياء، وتخلّف جراحاً عميقة في جسد المجتمع.

إرث قديم وسلوك خطير

يرى الباحث الاجتماعي الدكتور محمد شحادة -قسم علم الاجتماع – جامعة دمشق- أن هذه الظاهرة تعود في جذورها إلى موروثات قبلية وعشائرية، إذ كان إطلاق النار علامة على الفرح، وإعلاناً عن القوة والوجاهة، لكن ما كان قديماً رمزاً للهيبة في زمن السلاح الأبيض والخطر المحدود، فيما أصبح اليوم سلوكاً قاتلاً مع انتشار الأسلحة النارية الحديثة وارتفاع قوتها التدميرية.

كما يرى أن التمسك بهذه العادة يعود إلى تداخل الثقافة التقليدية مع ضعف الردع القانوني أحياناً، إضافة إلى رغبة البعض في لفت الأنظار وإظهار النفوذ، مشدداً على أن ذلك لا يمكن تبريره في مجتمع معاصر يسعى إلى حماية الأرواح.

ضحايا بلا ذنب

 

الإحصاءات الرسمية وشهادات المستشفيات تكشف الوجه القاتم للظاهرة، إذ إن عشرات الحالات تصل سنوياً إلى أقسام الطوارئ بسبب إصابات ناجمة عن رصاص طائش في مناسبات الأفراح، الإصابات تتنوع بين الجروح السطحية الخطيرة، والإعاقات الدائمة، والوفاة الفورية في بعض الحالات.

قصة الطفلة (ليان- 9 أعوام) التي فقدت حياتها وهي تلهو في فناء منزلها بالتزامن مع احتفال عرس جارهم، هي واحدة من الحوادث التي هزت الرأي العام، هذه الرصاصة التي انطلقت في السماء لم تحتفل، بل عادت لتخترق جسدها الصغير وتخمد ضحكتها للأبد، ورغم الغضب الشعبي، بقي الفاعل طليقاً بسبب صعوبة إثبات هوية مطلق النار في مثل هذه الحالات، كذلك أصيب طفل آخر برصاصة طائشة إثر احتفال أحدهم بنجاح ابنه بشهادة التعليم الأساسي، وهو الآن يرقد في المستشفى للعلاج.

لا تتوقف أضرار الظاهرة عند الجانب الجسدي، بل تمتد لتحدث جروحاً نفسية عميقة، فالخوف والقلق من المشاركة في المناسبات العامة، بات يسيطر على العديد من الأسر، خاصةً في المناطق التي تنتشر فيها هذه العادة، والأطفال الذين يشهدون حوادث كهذه قد يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، وفقدان الإحساس بالأمان في بيئتهم المحلية.

كما أن استمرار الظاهرة يقوّض الثقة بين مكونات المجتمع ويغذي الإحساس بعدم احترام القانون، حيث يرى المواطن أن الأرواح يمكن أن تُزهق دون عقاب حقيقي، ما يعمّق الفجوة بين الناس ومؤسسات الدولة.

القوانين موجودة.. ولكن

من الناحية الاقتصادية، تتحمل الدولة والمجتمع تكاليف باهظة جراء هذه الظاهرة، بدءاً من علاج المصابين، مروراً بإجراءات التحقيق والبحث، وانتهاءً بالخسائر الإنتاجية نتيجة فقدان أو إعاقة بعض الأفراد، والمستشفيات التي تعمل بأقصى طاقتها تجد نفسها أمام حالات يمكن وصفها بـ”العبثية” لأنها ناجمة عن سلوك يمكن تجنبه بالكامل.

معظم الدول العربية التي تعاني من هذه الظاهرة أصدرت تشريعات صارمة لتجريم إطلاق النار في المناسبات، تصل عقوبتها إلى السجن والغرامات المالية الكبيرة، بل ومصادرة السلاح، إلا أن المشكلة تكمن في ضعف تطبيق القانون أحياناً، أو التهاون في بعض الحالات بدافع المجاملة الاجتماعية أو الخوف من النزاعات العشائرية.

يؤكد المحامي كريم الشوفي أن الردع القانوني يحتاج إلى تطبيق فعلي وحازم، وأن يكون هناك تنسيق بين الأجهزة الأمنية والمجتمع المحلي، مع عدم استثناء أي شخص مهما كانت مكانته الاجتماعية، كما شدد على ضرورة تفعيل دور القضاء في البت السريع بمثل هذه القضايا، وإعطائها أولوية نظراً لخطورتها.

ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون المناسبات الاجتماعية مساحة للفرح والتلاقي، تحوّل بعضها إلى ساحات خطر حقيقي بسبب عادة إطلاق العيارات النارية العشوائية، التي باتت تهدد السلامة العامة وتحصد أرواح الأبرياء، ورغم التحذيرات المستمرة، لا تزال هذه الظاهرة منتشرة، ما يستدعي وقفة مجتمعية وقانونية جادة لوضع حد لهذا السلوك المميت قبل أن تتحول الأفراح إلى مآتم.

الإعلام والتوعية

وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لها دور محوري في تغيير السلوك الجمعي، كذلك الحملات التوعوية التي تبرز قصص الضحايا، وتوضّح المخاطر، وتكسر الصورة النمطية التي تربط إطلاق النار بالفرح أو الرجولة، يمكن أن تسهم في خلق وعي مجتمعي رافض لهذه الممارسات.

كما يمكن إشراك المدارس والجامعات في التوعية، من خلال الأنشطة الطلابية والمسرحيات التفاعلية التي تحاكي الواقع، مما يزرع قيم احترام الحياة في الأجيال الجديدة.

لا يمكن تحميل الدولة وحدها مسؤولية الحد من الظاهرة، فالمجتمع نفسه شريك أساسي في مواجهتها، إذ على رجال الدين والوجهاء وغيرهم ممن لهم تأثير في المجتمع أن يقفوا موقفاً واضحاً وصريحاً ضد إطلاق النار في المناسبات، وأن يعقدوا مواثيق شرف محلية تمنع هذا السلوك.

إن التفاخر بضبط النفس واحترام القوانين يجب أن يحل محل التفاخر بإطلاق النار، فالفعل الذي كان يُرى قديماً علامة فرح، أصبح اليوم في نظر الغالبية مؤشراً على اللا مسؤولية.

نماذج ناجحة للتغيير

بعض القرى والمدن نجحت في القضاء على الظاهرة تقريباً، عبر مزيج من الإجراءات الحازمة والتوعية المستمرة، ففي إحدى المناطق، اتفق الأهالي على منع مطلق للنار في الأعراس، مع إلزام صاحب المناسبة بالتبليغ عن أي مخالف، وتحويله للجهات المختصة، هذه التجربة نجحت لأنها جمعت بين ضغط المجتمع الصارم وتطبيق القانون بلا استثناء.

إطلاق العيارات النارية في الأفراح ليس عادة بريئة، بل جريمة كامنة في ثوب احتفال، والأرواح التي تُزهق بلا ذنب، والخوف الذي يتسلل إلى القلوب، والموارد التي تُهدر، كلها أسباب كافية لوقف هذه الظاهرة نهائياً.

المناسبات الاجتماعية يجب أن تبقى مساحة للأمان، يشارك فيها الجميع بلا خوف، والفرح الحقيقي هو الذي يترك خلفه ذكريات جميلة، لا سجلات شرطة وتقارير طب شرعي، إنه وقت أن نعيد تعريف الاحتفال، وأن نجعل من احترام الحياة والإنسانية عنواناً لكل مناسبة.

آخر الأخبار
قلعة حلب .. ليلة موعودة تعيد الروح إلى مدينة التاريخ "سيريا بيلد”.  خطوة عملية من خطوات البناء والإعمار قلعة حلب تستعيد ألقها باحتفالية اليوم العالمي للسياحة 240 خريجة من معهد إعداد المدرسين  في حماة افتتاح معرض "بناء سوريا الدولي - سيريا بيلد” سوريا تعود بثقة إلى خارطة السياحة العالمية قاعة محاضرات لمستشفى الزهراء الوطني بحمص 208 ملايين دولار لإدلب، هل تكفي؟.. مدير علاقات الحملة يوضّح تطبيق سوري إلكتروني بمعايير عالمية لوزارة الخارجية السورية  "التربية والتعليم" تطلق النسخة المعدلة من المناهج الدراسية للعام 2025 – 2026 مشاركون في حملة "الوفاء لإدلب": التزام بالمسؤولية المجتمعية وأولوية لإعادة الإعمار معالم  أرواد الأثرية.. حلّة جديدة في يوم السياحة العالمي آلاف خطوط الهاتف في اللاذقية خارج الخدمة متابعة  أعمال تصنيع 5 آلاف مقعد مدرسي في درعا سوريا تشارك في يوم السياحة العالمي في ماليزيا مواطنون من درعا:  عضوية مجلس الشعب تكليف وليست تشريفاً  الخوف.. الحاجز الأكبر أمام الترشح لانتخابات مجلس الشعب  الاحتلال يواصل حرب الإبادة في غزة .. و"أطباء بلا حدود" تُعلِّق عملها في القطاع جمعية "التلاقي".. نموذج لتعزيز الحوار والانتماء الوطني   من طرطوس إلى إدلب.. رحلة وفاء سطّرتها جميلة خضر