الثورة – مها دياب:
في زمن تتكاثر فيه الأزمات وتتراجع فيه الخدمات، يصبح العمل الإنساني أكثر من مجرد استجابة طارئة، بل فعل مقاومة يومي يعيد للناس شيئاً من كرامتهم المفقودة، ويمنحهم شعوراً بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الألم.
وفي سوريا، حيث تتشابك التحديات الصحية مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية، تبرز المبادرات الطبية كأحد أكثر أشكال التضامن المجتمعي صدقاً وفاعلية.
ومن رحم الحاجة إلى نبض الحياة جاءت جمعية العائلة الطبية، لتكون مشروعاً إنسانياً متكاملاً، يجمع بين الطب والرحمة، وبين التنظيم والالتزام، ليقدم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه العمل المجتمعي والإنساني.
وفي حديث لصحيفة الثورة، أكد مدير جمعية العائلة الطبية، سمير العلي أن دعم القطاع الصحي لا يقتصر على سد الاحتياجات الآنية، بل يتجاوز ذلك ليشكل ركيزة لتغيير مجتمعي طويل الأمد، موضحاً أن المبادرات المجتمعية تمثل نقطة انطلاق نحو إعادة بناء العلاقة بين المواطن والمؤسسة الصحية، وتعيد للطب مضمونه الإنساني كرسالة نبيلة تهدف إلى حفظ الحياة، لا مجرد وظيفة تؤدى.
من المبادرة إلى المؤسسة
العلي بين أن الجمعية انطلقت قبل عامين كمبادرة طبية في الشمال السوري، إذ كانت الحاجة أكثر إلحاحاً، والخدمات الصحية شبه معدومة، ثم امتدت لتشمل باقي المحافظات السورية، حاملة معها رسالة الأمل والعطاء، ومؤمنة أن الإنسان يستحق الرعاية أينما كان.
البداية انطلقت حين اجتمع عدد من الأطباء تحت شعار “أنا طبيب، أنا معك”، ليكونوا صوتاً للمرضى والمحتاجين، ويعيدوا تعريف العلاقة بين الطبيب والمجتمع.
بدؤوا بخطوات بسيطة، لكنهم كانوا يحملون رؤية كبيرة، ومع مرور الوقت، تحولت هذه المبادرة إلى جمعية العائلة الطبية، وأصبحت كياناً مؤسسياً يحمل الرسالة نفسها، ويعمل على توسيع نطاق العطاء وتنظيمه على مستوى جميع المحافظات السورية، مع الحفاظ على الروح الإنسانية التي انطلقت منها.
خارطة صحية
وأكد العلي أن الجمعية لا تكتفي بتقديم الخدمات الطبية التقليدية، بل تسعى إلى رسم خارطة صحية دقيقة، تراعي التخصصات الطبية، وتوجه كل مريض إلى الطبيب الأنسب لحالته، بما يضمن حصوله على العلاج المناسب دون تأخير أو ارتباك.. هذا النهج يسهم في تحسين جودة الخدمة، ويقلص من معاناة المرضى في البحث عن العلاج، ويمنحهم شعوراً بالثقة والطمأنينة، لأنهم يعرفون أن هناك من يهتم بتفاصيل حالتهم، ويحرص على توجيههم بشكل صحيح.
وأوضح أن الجمعية تقدم معاينات طبية وتحاليل وعمليات جراحية بتخفيضات كبيرة، إضافة إلى خدمات الإسعاف، والسمعيات، والبصريات، والنطق، والعلاج الفيزيائي، مبيناً أن عدداً كبيراً من الحالات تعالج مجاناً بعد التقييم، لأن الجمعية تؤمن أن المريض ليس رقماً، بل قصة إنسانية تستحق الاهتمام، وكل خدمة تقدم له هي خطوة نحو استعادة حياته.
تبدأ بالوعي
وشدد على أن الصحة لا تنفصل عن الوعي، لذلك أطلقت الجمعية برامج تعليمية وتمكينية تشمل التثقيف الصحي، الدعم النفسي، ومهارات التواصل، والإدارة اللوجستية، والمعالجة الفيزيائية.
هذه البرامج لا تستهدف المرضى فقط، بل تشمل المتطوعين والعاملين في القطاع الصحي، بهدف بناء مجتمع صحي واعٍ، قادر على التعامل مع التحديات، ومؤمن بأهمية الوقاية قبل العلاج.
كما تعمل الجمعية على دمج ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمكين المرأة لتكون شريكة في التنمية، لا مجرد متلقية لها، لأن التمكين الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالقدرة، لا بالاحتياج.
وبين العلي أن الجمعية تولي اهتماماً خاصاً بالأطفال عبر الرعاية الصحية والتعليم والدعم النفسي، لأنهم الفئة الأكثر هشاشة، والأكثر تأثراً بالأزمات. وبالتالي لابد من تعزيز دور المرأة في المجتمع من خلال التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير فرص التدريب والدعم، لأنها ليست فقط ضحية الأزمات، بل قادرة على صناعة التغيير إذا ما أُتيحت لها الفرصة. فكل طفل يُعالج، وكل امرأة تُدعم، هو استثمار في مستقبل أكثر عدالة ورحمة.وتحدث أيضاً عن أهمية العمل الجماعي في نجاح الجمعية، مشيراً إلى أن المقعد الإنساني في عيادة كل طبيب متعاون، وجهود المتطوعين في المحافظات، والكادر الإداري والداعمين، شكلت شبكة دعم متكاملة تجسد معنى التضامن والمسؤولية المشتركة. فكل فرد في الجمعية هو حلقة في سلسلة العطاء، وكل جهد يُبذل هو لبنة في بناء الثقة المجتمعية.
العطاء يحتاج إلى موارد
وأكد مدير الجمعية أن الاستمرار في تقديم الخدمات يتطلب موارد، لذلك بدأت الجمعية بإطلاق مشاريع تنموية تسهم في تحقيق استقلال مالي، وتعزز من قدرتها على تقديم الخدمات دون انقطاع، مؤكداً على أن هذه الرؤية الاقتصادية لا تلغي الطابع الإنساني، بل تدعمه وترسخه، لأن الاستدامة هي الضمانة الوحيدة لاستمرار الأمل.