الثورة – ناديا سعود:
نشر الباحث الإعلامي حسين الإبراهيم رؤية جديدة لنظرية مارشال ماكلوهان الشهيرة “الوسيلة هي الرسالة”، حاول من خلالها إعادة صياغة هذه المقولة بما يتناسب مع التحولات المعرفية والتقنية في عصر الذكاء الاصطناعي.
وقد أعطى للجانب التحريري الدور الرئيس في استثمار التقانات على الوجه الأمثل، مؤكداً أن الوسيط، مهما بلغ من قوة، لا يُنتج أثراً معرفياً من دون محتوى واعٍ يُحسن استخدامه.
تمثلت رؤية الإبراهيم في أن التقنية ليست مجرد ناقل للمعرفة، بل شريك في صياغة معناها، وأن التحرر المعرفي لا يتحقق إلا من خلال جاهزية تحريرية تواكب الجاهزية التقنية، فكل تطور في الوسيط يجب أن يُقابله تطور في منهج تحرير المحتوى، وتدريب الصحفي على استثماره فكرياً، لا فقط وظيفياً.
إن إعادة قراءة مقولة ماكلوهان من منظور الإبراهيم، تُعيد الاعتبار للمحتوى بوصفه روح الوسيط، وتُؤسس لنموذج جديد في الصحافة الذكية، إذ تتكامل التقنية مع الأداء الصحفي والذهنية التحريرية، لتُنتج معرفة حرة، عميقة، ومؤثرة.
“الثورة” التقت الباحث الإعلامي حسين الإبراهيم بهدف استكشاف مقومات هذه الرؤية الجديدة، وقال: “رؤيتي لا تتناقض مع مقولة ماكلوهان، بل تعيد توليدها معرفياً ضمن سياق عربي يعاني من ضعف في البنية التحريرية، فقد رأى ماكلوهان أن طبيعة الوسيط تحدد طبيعة الرسالة، في حين تضيف رؤيتي أن الوسيط لا يُنتج أثراً معرفياً من دون محتوى واعٍ يُحسن استخدامه، وهنا فإن تجربتي تشير إلى أن الوسيط لا يعمل إلا إذا أدرك الصحفي حدوده وإمكاناته، وأعاد تشكيل المحتوى داخله، لذلك، أقول: إن “الوسيط جزء من الرسالة، بشرط أن يمتلك الصحفي أدوات تحرير المعنى”.
وعن الفرق بين استخدام التقنية كوسيلة نشر، وبين توظيفها كأداة لتحرير المعرفة، يرى أن استخدام التقنية كوسيلة نشر يعني الاكتفاء بوظائفها الشكلية، السرعة، التوزيع، التفاعل اللحظي، أما توظيفها كأداة لتحرير المعرفة، فيعني تحويلها إلى بنية تفسيرية تُسهم في بناء المعنى، وتحفيز التفكير النقدي، التقنية ليست خلفية للمحتوى، بل جزء من بنية تحليله، إذا وُظّفت بذهنية تحريرية منفتحة، ففي الصحافة الذكية، لا تُستخدم التقنية لتزيين المادة، بل لتوسيع وظيفتها الإدراكية.
أداة لهندسة المعنى
وحول اعتبار التقنية شريكاً في إنتاج المعنى، أم إنها مجرد وسيط ناقل؟ يقول الإبراهيم: في رؤيتي، التقنية شريك معرفي لا مجرد ناقل، الوسيط الذكي لا يكتفي بنقل المعلومة، بل يُشارك في تشكيل بنيتها التفسيرية والسياقية، كل وسيلة لا تملك قدرة تمكين التفكير، هي أداة إسكات وتعمية، لا أداة إيصال.. لذلك، أعتبر التقنية أداة لهندسة المعنى، وليس لإنجازه فقط، وهذا ما جسّدته في مشاريع مثل “الصحافة الذكية” و”المهندس الرقمي الصغير”، إذ تحولت المنصة إلى مختبر تفسير، لا مجرد أداة نشر.
وعن تفسير مفهوم “التحرر المعرفي” في ظل هيمنة الوسائط الذكية، يرى أن التحرر المعرفي يُعد منهجاً فلسفياً وتطبيقياً يسعى إلى تجاوز القيود التي تفرضها بيئة النشر، بما في ذلك العوائق التقنية، من خلال تحويل هذه التحديات إلى فرص تطويرية، هذا المنهج لا يكتفي بإزالة العقبات، بل يعيد تشكيلها لتصبح أدوات فاعلة في خدمة المعنى الذي يسعى المنتج المعرفي إلى إيصاله.
ويضيف: يتمثل جوهر التحرر المعرفي في القدرة على تحويل القيود التقنية إلى محفزات للإبداع، ولا تكون الوسائل مجرد أدوات نقل، بل تُدمج في صناعة الرسالة نفسها، لتخدم المعنى لا أن تهيمن عليه.
وفي هذا السياق، لا تكون الوسيلة هي الرسالة كما ذهب “ماكلوهان”، بل تصبح جزءاً من بنية الرسالة، تُصاغ وتُوظف بما يخدم المعنى ويعززه، مشيراً إلى أن الهدف النهائي هو: تمكين المتلقي من استيعاب الرسالة من دون وسائط تعيق الفهم أو تفرض عليه نمطاً معيناً من التلقي، على أن التحرر المعرفي يرتقي بالأداء المعرفي من خلال تجاوز الحواجز الشكلية، ويضع المعنى في مركز العملية الاتصالية، ويمنح المتلقي حرية التفاعل معه من دون تدخل قسري من الوسيلة أو التقنية، وهو يعني بالنسبة للصحفي تطوير قدرته على إنتاج وتحليل واستخدام المعرفة بحرية، بمعزل عن الإملاءات الخارجية أو الحدود التقنية.
وفي ظل هيمنة الوسائط الذكية، يصبح هذا المفهوم أكثر إلحاحاً، لأن الخوارزميات قد تُغذّي الشعبوية ما لم تُصمّم لخدمة الوعي، فالتحرر المعرفي لا يعني أن تعرف، بل أن تملك أدواتك الخاصة لتفهم وتُفسّر وتُشكّك.
التقنية التي لا تُمكّن التفكير، تُعيد إنتاج التفاهة بجودة HD فقط.
الصحفي مهندس للرسالة
وعن انعكاس تجربته في الصحافة الذكية على العلاقة بين الصحفي والتقنية، يشير الإبراهيم إلى أن تجربته في هذا المجال لم تكن تدريباً على أدوات، بل تأسيساً لرؤية تحريرية ترى في التقنية شريكاً في إنتاج المعنى، الصحفي لم يعد مجرد ناقل، بل مهندس للرسالة، يحرر المحتوى داخل الوسيط، لا عبره فقط، في هذه التجربة تحوّل الخبر من سرد إلى وحدة تفسيرية.
لقد تم تدريب الصحفي على التفكير عبر التقنية، لا استخدامها فقط.. أما ما يميز تجربته عن الاستخدام التقليدي للتقنيات في الإعلام يعتقد الإبراهيم أن الفرق جوهري يكمن في أن الاستخدام التقليدي يوظف التقنية كزينة أو تسريع، فيما تجربتي تُعيد بناء المحتوى داخل التقنية.
في الإعلام العربي، كثيراً ما تُستخدم الأدوات الرقمية لتكرار التفاهة بجودة أعلى، أما في تجربتي فإن التقنية تُستخدم لتحليل الواقع، لا لتزيينه، إذ يبدأ التحرير من فهم الوسيط، لا من الانبهار به، فتُصمَّم كل منصة لتكون مساحة معرفية، لا مجرد قناة.
وحول أسلوبه في توظيف التقنية يوضح أنه في مجلة “المهندس الرقمي الصغير”، وكتابي “اكتشافات ساني وجوبا”، ومسلسل “أطفال السايبر” والعنكبوت الأزرق” لم أقدّم التقنية كأداة، بل كلغة تفسيرية للأطفال، تعزز الفضول وتُحرّر التفكير.
وفي “مدونة وطن” كانت التقنية نموذج عمل استكشافي جمعي، وفي مشروع “الصحافة الذكية”، تم ربط الذكاء الاصطناعي بالتفكير النقدي، عبر تحويل المادة الصحفية إلى بنية تحليلية، وتدريب الصحفي على أدوات تحقق، لا أدوات تفاعل فقط. وبناء محتوى يُثير السؤال، من دون أن يُقدّم إجابة جاهزة.
في الختام حدثنا الباحث الإعلامي الإبراهيم عن التحديات التي واجهها في دمج التقنية بالتحرير، مثل مقاومة الذهنية التقليدية التي ترى التقنية كأداة لا كمنهج، وضعف الجاهزية التحريرية في المؤسسات، رغم توفر الأدوات، وهيمنة الشعبوية على المحتوى، ما يتطلب إعادة بناء المعايير التحريرية.
وأشار إلى أن هذه التحديات تحولت إلى فرص، حين تم تأسيس نماذج تحريرية تربط التقنية بالوعي، كما في مدونة وطن، ومجلة المعلوماتية، وورشات التدريب الإعلامي.