من ركام الحرب إلى مفترق طرق اقتصادي.. هل يعود قلب الصناعة السوري للنبض؟

تحقيق – جهاد اصطيف

 

بعد أكثر من عقد من الحرب والانكماش، تقف حلب اليوم أمام اختبار اقتصادي جديد، فالمدينة التي لطالما عرفت بأنها “عاصمة الصناعة السورية”، تحاول استعادة مكانتها تدريجياً عبر المنطقة الصناعية بالشيخ نجار، التي تعد المؤشر الأبرز على التعافي، والمرآة الأوضح لواقع الاستثمار في المدينة، وبينما تعكس الأرقام الرسمية تعافياً جزئياً، تبقى التحديات التمويلية والطاقوية والإدارية تثقل كاهل الصناعيين، ليظل السؤال قائماً: هل تستطيع حلب أن تنهض مجدداً وتعود كما كانت قلب الصناعة السورية النابض؟.

الواقع بلسان أصحابه

في محاولة للاقتراب أكثر من المشهد الصناعي بحلب، كان لا بد من الإصغاء إلى أهل المهنة الذين عاشوا مرارة الانهيار ويحاولون اليوم البحث عن حلول للبقاء.

يقول تيسير دركلت، رئيس لجنة منطقة العرقوب الصناعية: الحكومة تدرك أهمية الصناعة في حلب، لكن حتى اليوم لم تتخذ الإجراءات الجذرية، هناك حسابات أخرى، لا نعرفها، تمنع من لمس جوهر المشكلة، نحن نتحدث منذ سنوات عن قضايا واضحة أهمها: الكهرباء، الطاقة، الحماية الجمركية، لكن لا خطوات حقيقية.

قطاع النسيج .. عمود الصناعة المنهار

قطاع النسيج، الذي كان يشكل ما بين 60 إلى 70% من المنشآت الصناعية في حلب، يعد الأكثر تضرراً.. المدينة التي كانت يوماً مرجعاً عالمياً في الأقمشة والخيوط والقطن، تعيش اليوم انهياراً غير مسبوق، فالمعامل الكبرى توقفت أو خفضت إنتاجها، والورش الصغيرة أغلقت أبوابها بالكامل.. والسبب الرئيس هو إغراق السوق بالبضائع الأجنبية الرخيصة، بعضها مهرّب، وبعضها يدخل برسوم جمركية شبه معدومة، ما يجعل المنتج المحلي عاجزاً عن المنافسة.

ويتساءل دركلت: كيف يمكن لصناعي يدفع كهرباء ومحروقات وضرائب أن ينافس قميصاً أو قماشاً يدخل بأسعار أقل من التكلفة؟.

ويضيف: لقد تحولت الصناعة النسيجية من مصدر للتصدير إلى عبء على أصحابها.

الكهرباء.. العصب الغائب

لعل قضية الكهرباء تشكل المثال الأكثر وضوحاً على أزمة الصناعة، منذ سنوات، يطالب الصناعيون بأمرين: تخفيض سعر الكهرباء ليكون مقارباً لدول الجوار، وزيادة ساعات التغذية للمناطق الصناعية بحلب، وليس الاقتصار على المدن الصناعية الكبرى.

ويؤكد رئيس لجنة العرقوب أن ما حصل هو العكس: ساعات التغذية لا تتجاوز في أحسن الأحوال 8 إلى 10 ساعات يومياً، ما يجعل التشغيل المستمر للماكينات مستحيلاً، والنتيجة أن الكثير من الصناعيين اضطروا للاعتماد على المولدات الخاصة والأمبيرات، وهو ما رفع الكلفة أكثر فأكثر.

ويؤكد الصناعي دركلت أن المطالبات المتكررة لهذين الأمرين لم تحقق أي نتيجة، وقد فشلت جميع الكتب والمراسلات والأخذ والرد، في إحداث أي تغيير.

وتساءل: كيف يمكن أن ننهض إذا كانت الماكينة تعمل نصف يوم فقط؟.

غياب المحفزات التصديرية

التصدير هو شريان الحياة لأي صناعة، لكنه في حلب اليوم شبه غائب، ويوضح رئيس لجنة العرقوب أن السبب لا يعود فقط إلى ضعف الإنتاج، بل إلى غياب السياسات المحفزة، فبدل أن تدعم الحكومة المصدّر، خرجت بتسعيرة رسمية وصفت بأنها “مجحفة بحق الصناعي”، إذ راعت طرفاً واحداً هو المستورد أو المتعاقد الخارجي، وأهملت مصلحة المنتِج المحلي.

وهذا جعل التصدير عملية غير مجدية اقتصادياً، ودفع الكثير من الصناعيين إلى الانسحاب من الأسواق الخارجية، إذ كيف يمكن أن نستعيد أسواقنا التي خسرناها في الخارج إذا لم تكن التسعيرة عادلة؟. حقيقة لا توجد محفزات، لا دعم للشحن، لا تعويضات، نحن نخسر في الداخل والخارج معاً.

الصناعة ليست حقل تجارب

من بين كل هذه الأزمات، يبرز جانب إنساني عميق، وهو أن الصناعي الحلبي منهك، فبعد أربعة عشر عاماً من حرب ومعارك وضغط إعلامي ونفسي، يجد الصناعي نفسه وحيداً في مواجهة أزمات الطاقة، التهريب، والضرائب،.

ويختم دركلت: لا يمكن التعامل مع الصناعي على أنه حقل تجارب للسياسات الاقتصادية، نحن بشر تعبنا، لسنا أرقاماً، من حقنا أن نحصل على دعم يضمن تجربة آمنة، لأننا لا نملك رفاهية الخسارة بعد كل ما مررنا به.

الفرصة الضائعة.. والرهان الممكن

يقر الصناعيون أن فرص التغيير شبه معدومة حتى اللحظة، وستبقى ما لم تعالج القضايا الثلاث الجوهرية، ألا وهي خفض تكاليف الإنتاج عبر دعم الطاقة، وحماية السوق المحلية من التهريب والبضائع الرديئة، وتوفير محفزات حقيقية للتصدير عبر سياسات عادلة ودعم لوجستي، من دون ذلك، تبقى الصناعة في حلب دون أفق للعودة إلى ريادتها.

صاحب معمل نسيج صغير، فضل عدم ذكر اسمه، يروي معاناته اليومية: كنا نصدر منتجاتنا إلى العراق والأردن والخليج، أما اليوم فالسوق المحلية نفسها لم تعد تحتمل، القماش الأجنبي يملأ المحلات بأسعار لا نستطيع منافستها، كيف لنا أن نغطي كلفة الكهرباء والضرائب ونبيع بسعر يوازي البضائع المهربة؟.

“سعد الحلبي”، صاحب ورشة غذائية، يشرح جانباً آخر من الصورة: الصناعات الغذائية التي كانت مفخرة من مفاخر حلب تراجعت بشكل مؤلم، كلفة السكر والزيت والمواد الأولية تضاعفت، والمستهلك لم يعد قادراً على شراء المنتج المحلي الذي صار أغلى من المستورد، نحن نعمل اليوم فقط للحفاظ على وجودنا، وليس لتحقيق ربح. هذه الشهادات تكشف بوضوح حجم التحديات التي يواجهها الصناعيون، فالكهرباء شحيحة، وتكاليف التشغيل مرتفعة، والبضائع الأجنبية تقتحم السوق بلا ضوابط لتجعل الصناعي الحلبي في مواجهة معادلة خاسرة.

قصص صغيرة للتعافي

رغم الصورة القاتمة، تظهر هنا وهناك قصص تعافٍ جزئي، فصابون الغار الحلبي، الأيقونة التراثية للمدينة، بدأ يستعيد حضوره في أسواق التصدير، بعد أن لجأت بعض الورش الصغيرة إلى الريف خلال الحرب، ثم عادت تدريجياً إلى المدينة. أما الصناعات الدوائية، فشهدت عودة محدودة لخطوط الإنتاج، مدفوعة بارتفاع الطلب المحلي وندرة الاستيراد، لتشكل فرصة حقيقية إذا ما توفرت المعدات الحديثة والتسهيلات المالية لاستيراد المواد الفعالة. في المقابل، عجز الكهرباء دفع بعض رواد الأعمال إلى ابتكار حلول بديلة، من خلال تركيب الأنظمة الكهروضوئية للمنازل والورش والمصانع، ورغم أن هذه المشاريع لا تزال مشتتة بين شركات صغيرة ومتوسطة، إلا أنها خففت من الأعباء، ووفرت طاقة مستقرة نسبياً لزيادة ساعات الإنتاج.

وعود بين النصوص والواقع

منذ عام 2016، تكررت التصريحات الرسمية عن أن ” الصناعة ستعود أقوى “، لكن الصناعيين يؤكدون أن ما تحقق على الأرض لا يتجاوز خطوات جزئية، إذ تم إصدار المرسوم رقم 114 لعام 2025 الذي عدل قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، مقدماً مزايا مثل الإعفاءات الضريبية والجمركية وتبسيط الإجراءات. كما صدر نظام الاستثمار الجديد رقم 432 لعام 2025 الذي يضمن عدم تغيير القوانين المؤثرة على المشروع خلال مدة العقد، ويشجع المشاريع التكنولوجية والريادية. ورغم أهمية هذه التشريعات، فإن انعكاسها على واقع الصناعة بقي محدوداً، بسبب بطء التنفيذ الإداري، وضعف الخدمات اللوجستية، وغياب الحماية الفعلية للسوق.

أين ينجح الاستثمار؟

يلفت خبراء اقتصاديون إلى أن المشاريع التي نجحت نسبياً هي تلك الأقرب إلى المواد الأولية المحلية، مثل الصناعات الغذائية البسيطة، وزيت الزيتون، وصابون الغار، وصناعات النسيج الصغيرة، هذه المشاريع تمكنت من الحفاظ على هامش ربح معقول، بفضل انخفاض كلف النقل ومرونة الاستجابة للأسعار، مقارنة بالقطاعات الثقيلة التي ما زالت تنتظر بنية تحتية قوية وطاقة مستقرة.

بيانات ومؤشرات رسمية

في المقابل، تكشف بيانات إدارة مدينة الشيخ نجار الصناعية عن مؤشرات تعاف جزئي: انضمام نحو 85 منشأة جديدة إلى الإنتاج في عام 2024، و 40 منشأة أخرى منذ بداية 2025، ليصل عدد المنشآت المنتجة إلى نحو 1000 منشأة، وحجم الاستثمار المقدر بلغ نحو (802،763) مليار ليرة سورية، ومن أبرز التسهيلات المقدمة، إدخال الآلات الحديثة بدون رسوم جمركية، تخفيضات ضريبية، تطوير محطات الكهرباء، واستقطاب مستثمرين محليين وعائدين من الخارج، وإطلاق مشاريع استثمارية جديدة بنظام B.O.T تشمل مولات تجارية، حاضنة تكنولوجية، محطة محروقات، فنادق، ومراكز فحص مركبات.لكن هذه الأرقام تبقى، وفق الخبراء، مؤشراً جزئياً، لأن فجوة ” المنشآت الجاهزة ” مقابل ” المنشآت المنتجة فعلياً ” لا تزال واسعة، وهو ما يجعل الصورة ناقصة ما لم تحل مشكلات الطاقة والتمويل والإدارة.

مفترق طرق بين الوعود والنهوض

اليوم، تقف حلب أمام مفترق طرق حاسم، إما الاستمرار في النهج الحالي الذي يجعلها سوقاً استهلاكية للبضائع الأجنبية، أو اتخاذ قرارات جريئة تعيد الاعتبار للصناعة الوطنية، والمطلوب ليس معجزات، بل ثلاث خطوات واضحة كما يلخصها الصناعيون: خفض تكاليف الإنتاج عبر دعم الطاقة، وحماية السوق المحلية من التهريب والبضائع الرديئة، وتوفير محفزات حقيقية للتصدير بسياسات عادلة ودعم لوجستي .عندها فقط يمكن أن تتحقق الوعود القديمة بأن ” حلب ستعود أقوى “، وستنهض مثل طائر العنقاء من تحت الركام، لتستعيد مكانتها كعاصمة الصناعة السورية.

آخر الأخبار
مزارعو الخضار الباكورية في جبلة يستغيثون مسح ميداني لتقييم الخدمات الصحية في القنيطرة معرض دمشق الدولي.. انطلاقة وطنية بعد التحرير وتنظيم رقمي للدخول برنامج الأغذية العالمي: المساعدات المقدمة لغزة لا تزال "قطرة في محيط" "المعارض".. أحد أهم ملامح الترويج والعرض وإظهار قدرات الدولة العقول الذهبية الخارقة.. رحلة تنمية الذكاء وتعزيز الثقة للأطفال وصول أول باخرة من أميركا الجنوبية وأوروبا إلى مرفأ طرطوس شهرة واسعة..الراحة الحورانية.. تراث شعبي ونكهات ومكونات جديدة محطات الوقود بحلب تحت عين الرقابة البنوك السورية جاهزة للربط بنظام "سويفت" ومصارف أجنبية بدأت بالتعامل وسط دعوات للعدالة وعدم النسيان.. إحياء الذكرى الثالثة عشرة لمجزرة داريا الكبرى  هيئة ضمان الودائع... خطوة لإعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي السوري مجدداً اليوم..معرض دمشق الدولي يفتح أبوابه ونوافذه إلى العالم "سويفت" ليست مجرد خطوة تقنية - مصرفية.. بل تحول استراتيجي على حركة التجارة من الوعي إلى التطبيق..البلوك تشين في خدمة التحول الرقمي الحكومي أموال "البوابة الذهبية".. عقود بيع لا ودائع مجمدة (2-2) المعارض الذكية لتبادل المعلومات والخبرات المهندس حسن الحموي: فضاء واسع للمشاركين تركيا: الاعتداءات الإسرائيلية تقوض مساعي إرساء الاستقرار في سوريا والمنطقة معرض دمشق الدولي .. انطلاقة وطنية بعد التحرير وتنظيم رقمي للدخول  الأمم المتحدة: مقتل الصحفيين في غزة غير مقبول ويجب تحقيق المساءلة والعدالة