الثورة – لينا شلهوب:
في زوايا غرف متواضعة، وعلى أوراقٍ صفراء تآكلت أطرافها من كثرة التنقل بين المكاتب الرسمية، تنام ابتكارات سورية، ولدت من رحم الحاجة والإبداع، لكنها لم تجد من يمد لها يد العون، قصص لمخترعين حملوا أحلامهم على أكتافهم، والبعض منهم حاز الميداليات الذهبية في معارض عالمية، ثم عادوا إلى وطنهم محمّلين بالأمل، ليجدوا أن الطريق إلى تحويل الفكرة إلى منتج، مسدود بجدار من البيروقراطية والإهمال.
أولئك المخترعون الذين ينظر إليهم الغرب ككنز لا يقدّر بثمن، يجدون أنفسهم في وطنهم غرباء، يطاردهم العجز واليأس، ويُتركون نهباً لإغراءات الخارج، وبينما تتسابق الأمم لبناء مراكز بحثية وحاضنات أعمال تحوّل الاختراعات إلى منتجات تدر مليارات الدولارات، يظل الابتكار السوري رهين أدراج مكاتب لم تتعلّم بعد أن الإبداع هو الثروة الوطنية الأغلى.. فكيف يمكن لعقل أن يبدع من دون بيئة حاضنة؟ ولماذا يترك هؤلاء المبدعون لقمة سائغة أمام عروض الهجرة، بينما يصرّ الداخل على دفن جهودهم؟ وأي انعكاسات يحملها هذا النزيف على المجتمع السوري اقتصادياً واجتماعياً؟
ثروة فكرية مهدورة
المخترع ليس مجرد فرد يبحث عن مجد شخصي، بل هو ثروة وطنية تماثل في قيمتها النفط أو الغاز أو حتى الذهب، إذ أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، فسخّرت موازناتها لدعم البحث العلمي وتشجيع العقول، أما في سوريا، فرغم وجود عقول مبدعة قادرة على الإضافة والابتكار، فإن أغلبها يظل حبيس الأدراج.
أحد أعضاء الجمعية الوطنية للاختراع والبحث العلمي أنور الوكاع كشف في حديث لصحيفة الثورة أن عدد براءات الاختراع المسجّلة في سوريا ضئيل جداً، ويبدو صادماً حين يقارن بدول أخرى، علماً أن كثيرين ممن كشفوا عن مواهبهم في الخارج، أثبتوا جدارتهم.
أحد المخترعين يروي قصته قائلاً: قدّمت ابتكاراً في مجال الطاقات البديلة إلى لجنة علمية محلية، فقوبل بالفتور وعدم الاهتمام، بعدها شاركت بنفس الابتكار في معرض دولي بماليزيا، وعدت بميدالية ذهبية، ويضيف: المفارقة أنني لم أجد حتى مكتباً رسمياً يستقبلني حين عدت.
القصة ليست استثناءً، بل هي صورة متكررة، عشرات المخترعين السوريين يحققون نجاحات خارج حدود البلاد، فيما تعجز مشاريعهم عن أن ترى النور محلياً، والأمر لا يقف عند الأرقام فقط، بل يتعداها إلى ضياع الفرص الاقتصادية الهائلة.
فعلى سبيل المثال، ينتج طلاب الكليات والمعاهد الهندسية والعلمية في سوريا أكثر من 25 ألف مشروع تخرّج سنوياً، ومع ذلك، لا يزيد عدد براءات الاختراع الناتجة عنها على 25 فقط، أي بمعدل 0.001. بينما في فنلندا، استطاعت وحدة طلابية واحدة ضمن كلية هندسية أن تحقق وحدها ما يعادل 30 بالمئة من الدخل الوطني.. الأمر لا يرتبط بقدرات العقول، بل بغياب المنظومة الداعمة، وهنا يظهر السؤال المرير: كيف يمكن لمجتمع أن ينهض وهو يترك أهم ثرواته الفكرية تتسرب إلى الخارج، أو تبقى سجينة الأدراج بلا رعاية أو استثمار؟
دعم بلا دعم
الأرقام لا تغش، وهي تكشف حجم الهوة العميقة بين الخطاب الرسمي وما يجري على أرض الواقع، فبينما تتحدث بعض الجهات المعنية عن أهمية دعم المبدعين، يشير الواقع إلى أن ما يتم تخصيصه لدعم وتشجيع الاختراعات ضئيل جداً، مما توفره لدعم الموسيقى والرياضة والفنون والسينما وغير ذلك، وهذا تفاوت مقلق، فأين السياسات الوطنية لدعم البحث العلمي والاختراع، رغم أن التجارب العالمية أثبتت أن الاستثمار في العقول يدر أرباحاً تفوق أضعاف ما تحققه صناعة الترفيه.
أحد الخبراء الأكاديميين الجامعيين الدكتور عبد الرزاق ضميرية، قال: في بلادنا، يمكن لمهرجان فني أن يحصل على تمويل مضاعف، بينما يعجز مخترع عن الحصول على بضع مئات من الدولارات لتجربة أولية قد تغيّر مصير قطاع صناعي بأكمله، الأدهى أن آلاف المشاريع الجامعية تذهب أدراج الرياح سنوياً، أكثر من 25 ألف مشروع تخرج من الكليات والمعاهد الهندسية والعلمية لا يجد طريقه للتطبيق، ولا يرى النور منه سوى 25 مشروعاً يتحول إلى براءة اختراع، الفارق الهائل هنا يكشف أن هناك كنزاً معرفيّاً يضيع بلا استثمار، وأن المنظومة الجامعية والصناعية تعمل في مسارين منفصلين لا يلتقيان.
بحثاً عن التمويل
ويرى أن المخترعين السوريين يفتقدون ليس فقط إلى التمويل، بل إلى البيئة الحاضنة للإبداع، إذ لا يمكن لعقل أن ينتج حلولاً عملية ما لم يجد الدعم المادي والتقني الذي يحوّل أفكاره من أوراق إلى إنجازات، ويطرح رؤية بديلة تقوم على الشراكة الحقيقية بين الجامعات والقطاع الصناعي، بحيث تتحول مشاريع التخرج إلى حلول مباشرة لمشكلات صناعية وتقنية تواجه المعامل الوطنية.
ويضيف: حين يفتح المصنع أبوابه للطالب ليعمل على مشروع يلامس احتياجاته الفعلية، تتحول النتيجة إلى براءة اختراع قابلة للتطبيق، وتتحول بدورها إلى منتج يوفر على سوريا ملايين الدولارات، كما يشير إلى مثال واضح، إذ يقول: لو تم تصنيع قطع الغيار محلياً بأيدٍ سورية، يمكن توفير ما يصل إلى 90 بالمئة من تكلفة استيرادها، وهو رقم ضخم في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة.لكن ما يحدث اليوم عكس ذلك تماماً، إذ يعمل المخترعون السوريون بشكل فردي، مفتقرين إلى الدعم المطلوب والظروف المواتية، وأبحاثهم تبقى حبراً على ورق، تنتظر يوماً قد لا يأتي.
عقبات تكبّل الإبداع
ورغم وضوح الحاجة إلى دعم الاختراع والبحث العلمي، إلا أن الطريق أمام المخترعين السوريين مليء بالعراقيل التي تجعل الإبداع مهمة شاقة تكاد تكون مستحيلة، منها البيروقراطية ورسوم التسجيل، فأول ما يواجهه المخترع هو سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية تبدأ من تقديم الفكرة إلى لجان متتابعة وتنتهي غالباً بالإهمال أو الرفض، ويضطر المخترع خلال هذه الرحلة إلى شرح فكرته تفصيلياً أكثر من مرة، ما يزيد من احتمالية سرقتها أو تسريبها.
إضافة إلى ذلك، فإن رسوم تسجيل براءات الاختراع تتزايد عاماً بعد عام، ما يدفع العديد من المخترعين للعزوف عن توثيق ابتكاراتهم، يقول أحدهم: لكي أسجل براءة اختراع لجهاز طبي ابتكرته، طلب مني مبلغ يعادل راتبي لأشهر، في النهاية، قررت أن أحتفظ بفكرتي لنفسي بدل أن أرهق عائلتي بالمصاريف.
بعد ذلك يأتي غياب المراكز البحثية، إذ لا توجد مراكز متخصصة قادرة على احتضان الأفكار وتحويلها إلى منتجات قابلة للتسويق، فبينما تمتلك الجامعات معامل تعليمية محدودة، إلا أنها غير مجهزة لدعم البحوث التطبيقية المتقدمة، والأكثر من ذلك هو الخوف من السرقة، الكثير من المخترعين يعزفون عن تسجيل ابتكاراتهم بسبب الخوف من سرقتها، فالتجارب السابقة أظهرت أن بعض الأفكار سُرقت أو قلّدت من دون أن يتمكن أصحابها من حماية حقوقهم، على الرغم من وجود مديرية حماية الملكية الفكرية في الادارة العامة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، وعندما حاول البعض اللجوء إلى القضاء، اصطدموا بإجراءات طويلة ومكلفة غالباً ما تنتهي بلا جدوى، نضيف إلى ذلك أيضاً، السخرية والاستخفاف، فالمفارقة المؤلمة أن بعض المخترعين تعرضوا للسخرية من قبل مسؤولين أو لجان تقييم محلية، بدعوى أن مشاريعهم لا ترقى لمستوى الابتكار، لكن هذه المشاريع نفسها حين عرضت في معارض دولية نالت ميداليات ذهبية وجوائز مرموقة.
أحد المخترعين يروي بمرارة: قدمت اختراعي في دمشق فقوبل بابتسامة ساخرة، وبعد أشهر حصلت على جائزة عالمية عنه في جنيف، ناهيك عن غياب ثقافة العمل الجماعي، نشهد أنه في الدول المتقدمة، يتم تطوير الابتكارات ضمن فرق علمية متكاملة تضم مخترعين ومهندسين وخبراء تسويق، أما في سوريا، فغالبية المخترعين يعملون بمفردهم، ما يجعل من الصعب نقل الفكرة إلى منتج متكامل قابل للاستثمار، وهنا تظهر ظاهرة خطف الغرب للعقول، بينما تغلق الأبواب في وجه المخترع السوري داخل وطنه، تتسابق الجامعات والشركات العالمية لفتحها أمامه، الغرب يعرف قيمة العقل المبدع، ويستثمر فيه بكل السبل الممكنة، لأنه يدرك أن الابتكار هو الطريق الأسرع للنمو الاقتصادي والتفوق العلمي.
نزيف العقول
هذا الواقع يعني أن سوريا تخسر عقولاً كان يمكن أن تغيّر مستقبلها الصناعي والتكنولوجي، كل عقل مهاجر هو مصنع محتمل، وكل اختراع مطبق في الخارج كان يمكن أن يكون حلاً لمشكلة داخلية، نزيف العقول لا يقتصر على الخسارة الفردية، بل هو نزيف اقتصادي واجتماعي طويل الأمد، إن تجاهل المخترعين وترك اختراعاتهم حبيسة الأدراج لا يضر فقط بأصحابها، بل ينعكس سلباً على المجتمع بأسره، فغياب الاستثمار في العقول يعني غياب التنمية الحقيقية.
كل اختراع لم ينفذ هو مشروع وطني خاسر، فالأفكار المهدورة تعني مصانع لم تُبنَ، فرص عمل لم تُخلق، منتجات وطنية لم تُطور، هذا الركود العلمي ينعكس مباشرة على ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
المبدعون وهجرتهم
المخترع الذي لا يجد من يدعمه يصاب بالإحباط، وربما يقرر هجر المجال بالكامل، بعض المبدعين تحوّلوا إلى أعمال بعيدة كل البعد عن اختصاصاتهم العلمية، فقط ليؤمّنوا لقمة العيش، هذا يعني خسارة سنوات طويلة من التعليم والخبرة، وخسارة فرصة لصناعة جيل جديد من المخترعين، الأمر الذي يؤدي إلى تجميد عجلة التنمية.