الثورة – جهاد اصطيف:
لم يكن افتتاح مراكز بريد الأتارب ومركز دارة عزة في ريف حلب الغربي مجرد حدث إداري عابر، بل كان بالنسبة للأهالي لحظة تاريخية انتظروها لسنوات طويلة، ففي ساحة المركز الجديد تجمع رجال مسنون ينتظرون الحصول على رواتبهم التقاعدية، وطلاب جامعيون يسألون عن دفع رسوم الجامعة الافتراضية، وآخرون جاؤوا للاستفسار عن خدمة وثيقة غير عامل.
المدير العام للمؤسسة السورية للبريد عماد الدين حمد، وصف افتتاح هذه المراكز بالخطوة الأولى على طريق إعادة خدمة مؤسسات الدولة للشعب، بعد معاناة طويلة عاشها المواطنون مع غياب الخدمات.
خدمات حيوية
يتعامل البريد السوري مع نحو 700 ألف متقاعد في مختلف أنحاء البلاد، ممن يتسلمون رواتبهم الشهرية عبر مكاتبه، إلا أن الخدمات لا تتوقف عند هذا الحد، إذ يقدم البريد أيضاً خدمة “شام كاش”، ودفع رسوم الجامعة الافتراضية والتعليم المفتوح وخدمات الحوالات الداخلية، إضافة لتسلّم وإرسال الطرود المحلية والدولية، وإصدار وثيقة غير عامل المطلوبة في العديد من المعاملات الرسمية، حيث كانت هذه الخدمات تتطلب من أهالي الريف السفر إلى المدينة، وتحملهم عناء المواصلات والمصاريف.
السجل المدني في البريد
من أبرز ما كشفه مدير المؤسسة، أن خدمة السجل المدني ستتوفر خلال شهر تقريباً عبر مراكز البريد، حيث بدأ الربط التجريبي في دمشق مع مبنى الحجاز قبل يومين، على أن تتوسع التجربة لتشمل مراكز المحافظات ومن ثم الأرياف.
ويعلق حمد على ذلك بقوله : نحن ندرك حجم المعاناة التي كان يتكبدها المواطن من أجل الحصول على بيان ولادة أو قيد نفوس أو إخراج قيد، لذلك فإن تقديم هذه الخدمة في الأرياف سيشكل نقلة نوعية حقيقية في حياة الناس، كما ستدخل خدمة السجل العدلي ضمن المراكز الريفية، ما يعني أن المواطن لن يضطر لاحقاً للسفر إلى المدن من أجل الحصول على ورقة “لا حكم عليه ” .
ربط بالمصارف والضرائب
الخطة لا تقف هنا، فالمؤسسة تعمل على ربط مكاتب البريد بالمصرف العقاري والتجاري والهيئة العامة للضرائب والرسوم، بحيث تصبح مكاتب البريد نوافذ موحدة تقدم مختلف الخدمات المالية والإدارية، ومن المقرر أن ترى هذه الخدمة النور خلال شهرين تقريباً.
للبريد في سوريا تاريخ طويل يعود إلى القرن التاسع عشر، حين كان وسيلة لنقل الرسائل بين المدن والبلدات، قبل أن يتطور لاحقاً إلى شبكة خدمية واسعة تقدم خدمات مالية وإدارية، لكن الحرب تركت عليه أثرها العميق، عشرات المراكز دُمرت أو توقفت، وحُرمت قرى بأكملها من أبسط خدمات الدولة، وفي الريف الغربي لحلب، كان المواطنون يقطعون عشرات الكيلومترات إلى المدينة من أجل ورقة بسيطة.
اليوم، يعود البريد كرمز لعودة الدولة، ومعه تعود الثقة التي فقدها الناس في السنوات الماضية، وعبر عدد من المتقاعدين في بلدة الأتارب عن امتنانهم لهذه الخطوة بالقول: كنا نذهب إلى حلب كل شهر، ونقضي يوماً كاملاً بين وسائل النقل وطوابير الانتظار، اليوم نستلم رواتبنا هنا، على بعد أمتار من منازلنا، الأمر ليس مالاً فقط بل كرامة وراحة.
جسر للتحول الرقمي
تسعى المؤسسة السورية للبريد للاستفادة من تجارب دول متقدمة مثل تركيا، لتطوير خدماتها وتحويلها إلى خدمات رقمية متكاملة، الفكرة كما يؤكد مدير المؤسسة أن يصبح مكتب البريد في الريف بمثابة مركز خدمة شامل، حيث ينجز المواطن معاملاته المالية والإدارية والتعليمية من مكان واحد.
هذه الرؤية تتكامل مع خطط الحكومة في الحوكمة الإلكترونية وتخفيف البيروقراطية، وضمان وصول الخدمات إلى أبعد قرية.
تحديات
رغم التقدم السريع على الطريق الرقمي، هناك تحديات حقيقية تتعلق بضعف البنية التحتية في بعض المناطق، والحاجة إلى تدريب كوادر جديدة وتأمين التجهيزات التقنية، كما أن الثقة التي فقدها المواطن خلال سنوات الحرب تحتاج وقتاً وجهداً لاستعادتها، غير أن المؤسسة تبدو مصممة على تجاوز هذه التحديات، إذ يقول حمد في ختام حديثه: “غايتنا أن تكون جميع خدماتنا في خدمة المواطن، في المدينة كما في الريف، بحيث لا يشعر أي مواطن بالتمييز أو التهميش”.
نحو ريف متصل
افتتاح مركزي الأتارب ودارة عزة ليس نهاية المطاف، بل بداية مسار طويل لإعادة الأرياف إلى خريطة الخدمات الحكومية، فكل مكتب بريد يُعاد افتتاحه، هو رسالة أمل لأهالي تلك المناطق أن عجلة الحياة تدور من جديد، ومع دخول خدمات السجل المدني والعدلي، وربط البريد بالمصارف والضرائب، يصبح البريد أكثر من مجرد مؤسسة، بل جسرٌ يربط الريف بالدولة والمواطن بالوطن.