الثورة – جهاد اصطيف:
في قلب مدينة حلب، وعلى خشبة مسرح نقابة الفنانين، قدمت شركة “المبدعين السوريين” عملاً مسرحياً بعنوان “ذاكرة اعتقال”، من بطولة الفنان محمود زكور، وإخراج محمد مروان إدلبي، وبمشاركة عدد من الفنانين الشباب.
لم يكن العرض مجرد مسرحية عابرة، بل تحول إلى حدث فني وإنساني، أعاد إلى الأذهان مأساة المعتقلين السوريين، وذكّر الحضور بجراح لا تزال مفتوحة في الذاكرة الجمعية للشعب السوري.

مساحة للذاكرة
المسرح السوري، الذي عاش سنوات طويلة تحت قيود الرقابة والرقابة الذاتية، يعود اليوم في تجربة “ذاكرة اعتقال”، ليكون مساحة للبوح وللشهادة، فالمسرحية تضع المعتقل السوري في قلب الخشبة، وتجعل من قصصه الفردية مرآة لوجدان جماعي، وتفتح نافذة على الألم الذي تعرض له الآلاف داخل زنازين النظام البائد. هذا العمل لا يكتفي بسرد الحكاية، بل يحاول أن يجسد الإحساس، أن ينقل صوتاً لم يُسمع، وصورة منعت من التداول لعقود.

رسالة المخرج
المخرج محمد مروان إدلبي شرح دوافعه قائلاً : “ذاكرة اعتقال” تحكي عن المعتقلين في سجون النظام البائد، عن التعذيب الذي مورس بحقهم، وعن انعدام الرحمة والإنسانية داخل المعتقلات. أردنا من خلال هذا العمل أن ننقل الصورة الحقيقية التي عاشها المعتقلون نتيجة الظلم، وأن نجسد مشاعرهم، ولو بجزء بسيط، عبر المسرح.
ويضيف إدلبي: الفنان محمود زكور، بطل العمل، كان قادراً على إيصال الإحساس بصدق، فهو من الفنانين الثوار الذين حملوا رسالة الثورة، هدفنا أن نبقي قضية المعتقلين حية في الذاكرة، وأن نذكر بتضحياتهم من أجل الحرية.
وشدد أيضاً على أن العمل ليس مجرد شهادة على الماضي، بل رسالة للمستقبل : نحن نتوجه لأهلنا في حلب، لنقول إن الغد سيكون أفضل، يجب أن نعمل معاً، يداً بيد، لبناء سوريا جديدة.

القصة على الخشبة
المسرحية تسرد حكايات مجموعة من الشباب الذين لبوا نداء الحرية مع انطلاق الثورة، فوجدوا أنفسهم في مواجهة القمع، والاعتقال، والتعذيب، من خلال مشاهد متتابعة، تنقل المسرحية الجمهور إلى أجواء الزنازين : الجوع، الوحدة، القسوة، وانتهاك الكرامة.
يتنقل العمل بين قصص المعتقلين وذاكرة الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن، وبين صورة السجان الذي يرمز إلى منظومة كاملة من القمع. في لحظة ما، يتحول المسرح نفسه إلى زنزانة، والجمهور إلى شهود على ما جرى، هذا الانغماس جعل العديد من الحاضرين يصفون العرض بأنه تجربة عاطفية مباشرة، لا يمكن الهروب منها.

الشهادة الحية
الفنانة والمطربة سلوى جميل، التي حضرت العرض، علقت قائلة: العمل كان إبداعاً أكثر من رائع، في لحظات شعرت أنني أعيش الحدث فعلاً، نقل الفريق ذاكرة المعتقلين بكل شفافية وسلاسة، وكأننا نحن من نعيش اللحظة. أهمية العمل أنه يعيد تضحيات المعتقلين إلى الواجهة، ويذكرنا أنهم فعلاً ضحوا من أجل الحرية.
المخرج السينمائي والكاتب صالح السلطي، فأكد أن المسرحية تمثل شهادة فنية ضرورية : العمل جيد ويحمل رسالة واضحة، إنه يحكي عن مجموعة من الشباب الذين لبوا نداء الحرية وتعرضوا للاعتقال والتعذيب، هذه الحكاية ليست فقط حكايتهم، بل حكاية شعب كامل.
الجمهور بدوره رأى أن المسرحية متكاملة من حيث الفكرة والإخراج والتمثيل، وأنها نجحت في إيصال رسالة وجدانية بليغة، جسدت الضمير الإنساني وحركت المشاعر.

أبطال العمل
الفنان محمود زكور، بطل المسرحية والمسؤول عن المسارح في حلب، قال : هذا هو العرض الأول لعمل “ذاكرة اعتقال” في مدينة حلب، نحن من خلاله نتحدث عن حلب نفسها، عن جراحها ومعاناتها، عن شبابها الذين دخلوا المعتقلات ولم يخرج بعضهم أبداً.
الممثل محمد ملقي، الذي جسد شخصية السجان، أوضح أن الدور لم يكن سهلاً : شخصية السجان مثلت مراحل عدة من أيام النظام البائد، ولكل مرحلة نظامها وآليتها في التعامل مع المعتقلين، الدور حمل بعداً رمزياً ، لم يكن عن فرد بعينه، بل عن منظومة كاملة، أردنا أن نظهر كم المآسي التي عاشها السوريون، ليس فقط خلال السنوات الماضية، بل عبر عقود من الاستبداد.
أما الممثلة فاطمة عبد، التي أدت دور الأم، فبينت أن العمل جسد بصدق معاناة المعتقلين، وخاصة الأمهات اللواتي ما زلن يتألمن بمرارة من فقد أبنائهن أو غيابهم في السجون، هذه المأساة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، مضيفة: دوري كأم كان صعباً، لكنه حمل رسالة مؤثرة للجمهور، العمل ترك أثراً عميقاً لدى الجميع.
الأبعاد الرمزية والإنسانية
فريق العمل أشاروا إلى أنهم أنجزوا المسرحية خلال فترة قصيرة، لم تتجاوز خمسة عشر يوماً فقط، معتبرين أن ذلك بحد ذاته إنجاز.
وأضافوا: المأساة التي عاشها المعتقلون لا يمكن أن تنسى، أردنا أن نوصل رسالتنا بسرعة، أن نسلط الضوء على ما كان محرماً أو ممنوعاً الحديث عنه في زمن النظام البائد، اليوم نستطيع أن نتحدث بحرية، وأن نجسد معاناتنا على خشبة المسرح.
هذا الإنجاز السريع لم يأت على حساب الجودة، بل أظهر قدرة الفنانين السوريين على تحويل الألم إلى طاقة إبداعية، وعلى صياغة عمل متكامل رغم ضيق الوقت والإمكانات.
ما يميز “ذاكرة اعتقال”، أنه لم يكن مجرد عمل توثيقي، المسرحية حملت أبعاداً رمزية، فالسجان لم يكن شخصية فردية، بل رمز للمنظومة القمعية، الأم لم تكن أماً بعينها، بل صورة لكل أم سورية تنتظر خبراً عن ابنها، والشباب المعتقلون لم يكونوا مجرد أسماء، بل مرآة لآلاف المعتقلين والمفقودين.
هذا البعد الرمزي جعل العمل يتجاوز حدود المسرح المحلي، ليصبح شهادة إنسانية عالمية، إنها صرخة ضد النسيان، وضد محاولات طمس الحقيقة.
بين الذاكرة والأمل
“ذاكرة اعتقال” ليست مجرد عرض فني، بل هي وثيقة مسرحية، وصرخة ضمير، ورسالة أمل، إنها تعيد الاعتبار لقضية المعتقلين، وتبقي جراحهم حية في الذاكرة، حتى لا تتحول إلى مجرد خبر قديم في صفحات التاريخ.
هذا العمل يثبت أن المسرح السوري ما زال قادراً على الإبداع والتجديد، وأن الفن يمكن أن يكون وسيلة للمقاومة وللتوثيق وللشفاء في آن واحد.
في النهاية، ما أراد فريق العمل قوله، هو أن المأساة لا تنسى، وأن الحرية ممكنة، وأن بناء سوريا الجديدة يبدأ من مواجهة ذاكرتنا لا إنكارها.