الثورة – بتول أحمد:
في قلب سوريا، حيث كانت الحقول تمتد على مدّ النظر، وشكّلت القرى الريفية العمود الفقري للاقتصاد الوطني لعقود، بات المشهد اليوم مختلفاً تماماً.. الريف السوري، الذي لطالما عُرف بسلة الغذاء، يعيش حالة من التهميش البنيوي والانهيار الزراعي، وسط غياب واضح للسياسات التنموية، ما أدى إلى موجات نزوح داخلية غير مسبوقة، وتفكك في البنية الاجتماعية والاقتصادية.
من الوفرة إلى الجفاف
حتى مطلع الألفية، كانت محافظات مثل: الحسكة، دير الزور، حماة، ودرعا تُنتج الجزء الأكبر من القمح والخضراوات والفواكه في سوريا، لكن بين عامي 2007 و2010، ضرب الجفاف قلب هذه المناطق، وتزامن ذلك مع رفع الدعم عن المحروقات، ما أدى إلى انهيار ثلاثة مواسم زراعية متتالية.
النتيجة كانت كارثية
آلاف المزارعين فقدوا مصدر رزقهم، وبدأت موجات نزوح ضخمة نحو المدن، بحثاً عن حياة أقل قسوة.
مع تدهور القطاع الزراعي، لم يجد سكان الريف خياراً سوى الهجرة إلى المدن الكبرى مثل: دمشق، وحلب، لكن هذه المدن لم تكن مهيأة لاستيعاب هذا التدفق السكاني، فظهرت العشوائيات على أطرافها، تفتقر إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية.
في هذه الأحياء، يعيش أبناء الريف في ظروف قاسية، محرومين من التعليم الجيد والرعاية الصحية، ويعانون من التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
علاقة متصدعة
على الرغم من أن السلطة السياسية في سوريا اعتمدت تاريخياً على أبناء الريف في تشكيل قواعدها الشعبية، إلا أن السياسات الحكومية في النظام البائد ساهمت في تهميشهم، لم تُخصص ميزانيات كافية لتنمية المناطق الريفية، ولم تُنفذ مشاريع تنموية حقيقية.
ومع اندلاع الاحتجاجات عام 2011، كان الريف في طليعة الحراك الشعبي، ليس فقط بسبب القمع السياسي، بل أيضاً نتيجة الشعور العميق بالإقصاء الاقتصادي والاجتماعي.
خارج الحسابات الرسمية
تقول الصحفية السورية مادلين جليس في أحد مقالاتها المنشورة: “منذ عقود، مازالت الأرياف السورية تعاني حالة تهميش حكومي واضحة، على الرغم من كونها الخزان الزراعي والغذائي للاقتصاد الوطني.. عيون الحكومة باتت متجهة نحو المدن الصناعية، وكأن الأرياف خارج نطاق مسؤوليتها.
وتضيف: “جلّ الخدمات الحكومية لا تصل إلى الريف، فحتى الكهرباء والمياه، التي تُعد من أبسط الحقوق، تغيب عن قرى مثل (نيصاف)، رغم وجود نبع غزير فيها، في مفارقة مؤلمة تعكس الإهمال البنيوي لهذه المناطق.
يقول أبو خالد، مزارع من ريف إدلب: “كنا نزرع القمح ونصدره، اليوم لا نجد ما نأكله، الأرض عطشانة، والدولة غائبة.”
وتضيف رنا، شابة من ريف درعا: “تركت قريتي لعدم وجود مدارس فيها، ولا فرص عمل.
في المدينة أنا غريبة، لكن على الأقل أجد كهرباء.”
منظومة حياة
في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات محلية لإحياء الزراعة في بعض المناطق، خاصة في شمال سوريا، مشاريع صغيرة لإعادة تأهيل الآبار، وتدريب الشباب على الزراعة الحديثة. لكن هذه المبادرات تبقى محدودة، وتعاني من نقص التمويل، وغياب الدعم الحكومي، وتحديات أمنية كبيرة. يقول المهندس الزراعي حسام العلي، المختص في إدارة الموارد الطبيعية: “ما يحدث في الريف السوري ليس فقط أزمة إنتاج، بل انهيار في منظومة متكاملة كانت تربط الأرض بالإنسان والمجتمع. الجفاف والحرائق عوامل خطيرة، لكن الأخطر هو غياب التخطيط الزراعي طويل الأمد، وغياب الدعم الفني للمزارعين.
” ويذكر أن “الزراعة الحديثة لا تعتمد فقط على المطر، بل على إدارة ذكية للمياه، وتنوع المحاصيل، وتدريب الفلاحين على أساليب مقاومة التغير المناخي في سوريا، ما زلنا نزرع كما في السبعينيات، فيما العالم يتجه نحو الزراعة الذكية، الريف بحاجة إلى مراكز إرشاد زراعي، شبكات ري حديثة، وتسهيلات حقيقية للحصول على البذور والأسمدة”. ويختم بالقول: “إذا أردنا إنقاذ الريف، علينا أن نعيد الاعتبار للزراعة كعلم ومهنة، لا كعبء اجتماعي. دعم الفلاح لا يكون فقط بالمال، بل بالمعرفة، وبمنظومة تحترم الأرض وتُعيد لها الحياة”.
وجه آخر للنزيف الريفي
لم تقتصر معاناة الريف السوري على الجفاف والنزوح، بل تفاقمت بفعل موجات الحرائق التي اجتاحت الغابات والأراضي الزراعية، خاصة في المناطق الساحلية والغربية، هذه الحرائق، التي غالباً ما تُعزى إلى الإهمال أو ظروف مناخية متطرفة، تسببت في خسائر فادحة للمزارعين، ودمرت مساحات واسعة من المحاصيل والأشجار المثمرة، وأدت إلى تهجير المزيد من العائلات.
ورغم الجهود البطولية التي بذلها ويبذلها الأهالي وعدد كبير من المتطوعين في مواجهة النيران، إلا أن غياب التجهيزات، ونقص فرق الإطفاء، وضعف التنسيق الرسمي، جعل من كل حريق كارثة متكررة.
يقول سامر، متطوع من ريف اللاذقية: “نحارب النار بأيدينا، لا معدات ولا دعم، نخسر الأرض كل عام، ولا أحد يسأل.”..الحرائق لم تعد مجرد حوادث موسمية، بل باتت مؤشراً على هشاشة البنية البيئية، وغياب التخطيط الوقائي، وإذا كانت الزراعة هي روح الريف، فإن الحرائق تقطع شرايين هذه الروح، وتزيد من النزيف الاقتصادي والاجتماعي، وتعمّق الشعور بالعزلة والتهميش.
إنصاف الريفلم يعد الحديث عن إنقاذ الريف السوري مجرد مطلب تنموي، بل بات ضرورة وطنية ملحّة تفرض نفسها على أي مشروع لإعادة بناء الدولة، فالمناطق الريفية، التي لطالما شكلت الخزان الزراعي والبشري لسوريا، تعاني اليوم من تهميش مزمن، لا يمكن تجاوزه إلا عبر تبني سياسات جريئة وشاملة.
أولى الخطوات تبدأ بإعادة توزيع الموارد الوطنية بشكل أكثر عدالة، بحيث لا تبقى المدن الكبرى وحدها في صدارة الاهتمام الحكومي، بينما تُترك القرى لمصيرها، هذا يتطلب توجيه الاستثمارات إلى البنية التحتية الريفية، وتوفير الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وتعليم ورعاية صحية، باعتبارها حقوقاً لا امتيازات.
كما أن إصلاح السياسات الزراعية بات ضرورة لا تحتمل التأجيل، دعم المحاصيل المتنوعة، وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مدروسة، وتحرير السوق المحلي من القيود البيروقراطية، كلها خطوات من شأنها أن تعيد للمزارع ثقته بأرضه، وتمنحه القدرة على الاستمرار.
ولا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية دون تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها، منح البلديات الريفية صلاحيات فعلية، وتفعيل دور المجالس المنتخبة، يفتح الباب أمام مشاركة شعبية واسعة، ويكسر المركزية التي عطّلت التنمية لعقود، في المقابل، يجب أن يُعاد الاعتبار للهوية الريفية كمكون أصيل في النسيج الوطني، لا كمجرد خلفية اجتماعية، وتعزيز حضور الريف في الخطاب الثقافي والسياسي، والاعتراف بدوره في بناء الدولة، يساهم في ترميم العلاقة المتصدعة بين السلطة والمجتمع.
وأخيراً، فإن إدماج الريف في مشاريع إعادة الإعمار لا يجب أن يقتصر على إصلاح الطرق والمدارس، بل يجب أن يشمل أيضاً التنمية البشرية، وخلق فرص عمل مستدامة، وإعادة تأهيل المؤسسات المحلية لتكون قادرة على النهوض من جديد، بهذه الرؤية، يمكن للريف السوري أن يستعيد مكانته، لا كطرف مهمّش، بل كقلب نابض في جسد الوطن.
قلب الوطن
الريف السوري ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو ذاكرة وهوية وركيزة اقتصادية، تجاهله يعني تجاهل نصف الوطن.. وإن كانت المدن هي الواجهة، فإن الريف هو العمق، وإعادة الحياة إليه ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية عاجلة، تضمن العدالة والاستقرار، وتعيد لسوريا توازنها المفقود.