الثورة – هنادة سمير:
يُقال: إن “الانطباع الأول لا يُمحى”، وهذا الانطباع غالباً ما يتشكل خلال ثوانٍ قليلة عند لقاء شخص جديد، إذ يلعب المظهر الخارجي دوراً محورياً في تشكيل صورة مبدئية عنه، وفي بيئة العمل، يكتسب اللباس أهمية مضاعفة، فهو ليس مجرد زي، إنما رسالة غير منطوقة تعكس الجدية والالتزام والهوية المهنية.
اللباس كلغة بصرية
يشير خبراء علم النفس الاجتماعي إلى أن الملابس تمثل وسيلة للتعبير عن الذات قبل أن يتحدث الفرد، فالألوان، القصات، والإكسسوارات كلها تحمل رموزاً غير مباشرة تؤثر على نظرة الآخرين.
وفي السياق المهني، يرتبط اللباس غالباً بالانضباط والاحترافية، فعلى سبيل المثال توحي البدلة الرسمية بالجدية والقدرة على القيادة، بينما الملابس غير الرسمية قد تعطي انطباعاً بالمرونة أو حتى عدم الاكتراث أحياناً.
الفوارق الثقافية والمهنية
ويختلف تأثير اللباس باختلاف الثقافة والسياق، ففي بعض الدول الغربية، باتت الملابس شبه الرسمية أو الكاجوال الذكي مقبولة في بيئات العمل الإبداعية والتكنولوجية، فيما لا يزال الطابع الرسمي سائداً في مجالات مثل القانون والمصارف والدبلوماسية، أما في المجتمعات الشرقية، فيلعب الزي أيضاً دوراً في احترام القيم والعادات، ما يجعل اللباس المحافظ عاملاً مهماً في تعزيز الثقة المتبادلة.
تأثير اللباس على التوظيف والترقي
وتؤكد دراسات ميدانية أن الانطباع الذي يتركه المرشح للوظيفة في المقابلة يعتمد بنسبة تصل إلى 55 بالمئة على مظهره العام، بما في ذلك اللباس، فيما وضعت شركات عالمية عديدة مدونات سلوك توضح ما هو مناسب من اللباس في بيئة العمل، بهدف توحيد الصورة العامة للعاملين وتعزيز هوية المؤسسة، كما أن الموظفين الذين يحافظون على مظهر مهني أنيق غالباً ما يُنظر إليهم على أنهم أكثر كفاءة ويُمنحون فرصاً أكبر للترقي.
الباحثة في علم الاجتماع سوسن السهلي بينت في حديثها لـ”الثورة” أن المظهر ليس مجرد انعكاس للشخصية الفردية، بل أداة للتواصل المؤسسي، فاللباس المناسب يعزز الانسجام داخل بيئة العمل ويُظهر الاحترام للآخرين، فيما المبالغة أو الإهمال في المظهر قد يخلّ بالتوازن ويضعف صورة المؤسسة أمام عملائها، وتضيف : أن المؤسسات الناجحة هي التي توازن بين حرية الموظف في اختيار مظهره وبين متطلبات الهوية البصرية للشركة أو المؤسسة.
المظهر كاستثمار مهني
وتوضح السهلي أن كثيراً من الناس ينظرون إلى اللباس على أنه كلفة إضافية، لكن في الواقع يمكن اعتباره استثماراً في رأس المال البشري فالموظف الذي يهتم بمظهره يعزز فرصه في بناء شبكة علاقات واسعة، إذ ينظر إليه كعنصر موثوق يمكن الاعتماد عليه ومن جهة أخرى، فإن إهمال المظهر قد يضعف من قدرة الفرد على إثبات كفاءته حتى لو كان مؤهلاً من الناحية العلمية أو العملية.
وتشير إلى أن هناك دراسات تبين أن التأثر بالملابس لا يقتصر على الآخرين فقط، بل إن الشخص نفسه يتأثر بما يرتديه بما يُعرف في علم النفس بمصطلح التحفيز الرمزي للباس الذي يشير إلى أن ارتداء ملابس معينة قد يعزز ثقة الفرد بنفسه أو يزيد من تركيزه، فالموظف الذي يرتدي زياً رسمياً يشعر عادةً بسلطة داخلية تدفعه للتصرف بجدية أكبر.
نحو ثقافة مهنية متوازنة
وتؤكد السهلي أن التركيز على اللباس لا يعني الانشغال بالشكل على حساب الجوهر، بل يشكل جزءاً من الثقافة المهنية التي توازن بين الكفاءة الداخلية والانطباع الخارجي، فالمظهر الأنيق يعكس احترام الذات والآخرين، لكنه يظل وسيلة مساعدة، فيما يظل الأداء والإبداع هما الحكم النهائي على قيمة الموظف، وأن اللباس في بيئة العمل ليس مجرد تفاصيل خارجية، بل لغة صامتة تؤثر على الانطباعات، القرارات، وحتى فرص التقدم.
وفيما يظل الجوهر والكفاءة هما الأساس، يبقى المظهر المدروس أداة قوية لتعزيز الحضور المهني وبناء جسور الثقة في عالم تسوده المنافسة.