الدواء في ريف حلب.. رحلة شاقة بين الندرة والغلاء!

تحقيق – جهاد اصطيف:

كان المساء حارا في إحدى قرى ريف حلب الشمالي، حين دخل أسامة، (أب لطفلة صغيرة) إلى الصيدلية. لم يُخفِ قلقه، وهو ينتظر الصيدلاني ليعطيه الدواء المضاد للالتهاب لابنته. يقول بصوت متعب: اشتريت أمس الدواء ذاته من صيدلية قريبة بـ15 ألف ليرة، واليوم أجده بـ18 ألفاً فقط على بعد أقل من كيلومتر واحد، كيف يمكن أن يختلف سعر الدواء بهذا الشكل؟ نحن لا نتحدث عن سلعة كمالية، بل عن صحة أطفالنا. قصة أسامة ليست حالة فردية، بل تختصر مأساة مئات العائلات في أرياف حلب، حيث بات الحصول على الدواء رحلة مرهقة، تبدأ بالبحث عن صيدلية تملك الدواء، وتنتهي بصدمة تفاوت الأسعار، وسط واقع يصفه الأهالي بأنه خليط من الغلاء، وضعف القدرة الشرائية، وبعد المسافة عن مراكز المدن.

ريف حلب.. سوق واعد

على الرغم من أن المدن الكبرى مثل حلب المدينة تبدو للوهلة الأولى الأكثر جذباً لشركات الأدوية، فإن شهادات عدد من مندوبي تلك الشركات تكشف أن الريف بات يحظى بالأولوية. يقول “أمير . ح”، وهو يعمل مندوبا لإحدى الشركات الدوائية: المدينة تمتلك بنية تحتية جيدة وصيدليات ومستودعات كافية، ما يجعل عملية التوزيع هناك أقل تعقيداً، أما الريف فهو سوق واعد ويضم عدداً كبيراً من السكان الذين يحتاجون إلى الدواء يومياً، لذلك أصبحت الشركات تنظر إليه على أنه فرصة وليس عبئاً. لكن هذا التوجه لا يخفي حقيقة أن الريف يعاني تحديات معقدة، تجعل التخديم الدوائي أكثر صعوبة من أي مكان آخر.

عقبات على الطريق

المناطق البعيدة مثل عين العرب أو القرى الواقعة على أطراف ريف حلب الشرقي تحتاج إلى رحلات طويلة عبر طرق ترابية أو وعرة. يقول أحد السائقين العاملين مع شركات التوزيع: أحياناً نضطر لاستخدام سيارتين أو أكثر لإيصال شحنة صغيرة من الأدوية، هذا يضاعف الكلفة ويؤخر وصول الدواء. وكلما طالت المسافة، زادت كلفة النقل، وهو ما ينعكس على سعر الدواء. بعض الصيادلة يؤكدون أن فرق 3 آلاف ليرة بين صيدلية وأخرى سببه الرئيسي أجور النقل، كذلك الطرق غير المعبدة، وعدم وجود مستودعات مجهزة للتخزين، كلها تحديات تقلل من انتظام الإمداد الدوائي. يقول “إسماعيل . ع”، من سكان ريف مسكنة: حتى لو كان الدواء متوفراً، فكثير من الأهالي لا يملكون ثمنه، نحن نعمل بالزراعة أو بأعمال بسيطة، والدخل لا يكفي لمعيشة عائلة، فكيف الحال مع أسعار الأدوية التي ترتفع باستمرار؟.

ابتكارات الشركات لتجاوز الأزمة

رغم هذه العقبات، لم تستسلم شركات الأدوية، بل طورت آليات لتأمين استمرار التوزيع، حيث يتكفل مندوب واحد بخدمة عدد من الصيدليات في منطقة محددة مثل أعزاز أو الباب بسيارة واحدة، هذه الطريقة سريعة، لكنها مكلفة، وهناك مستودعات صغيرة أنشأتها بعض الشركات كمستودعات متوسطة الحجم في نقاط استراتيجية تعمل كوسيط بين الشركات الكبرى والصيدليات، لتكون مركزاً للربط يتم عبرها تجميع الأدوية في مركز واحد قريب، ثم توزيعها على القرى المحيطة وفق احتياجاتها. يقول المندوب “أحمد. ج”: هذه الآليات تساعدنا على الاستمرار، لكنها مؤقتة، ما نحتاجه هو شبكة متكاملة على غرار ما هو موجود في المدن.

مناطق ذات أولوية

وضعت الشركات قائمة بالمناطق الريفية التي تحظى بأولوية خاصة، مثل: منطقة السفيرة كونها مركزاً سكانياً كبيراً وعقدة مواصلات، والحاضر كموقع يتوسط عدداً من القرى، وكذلك الخفسة ذات الكثافة السكانية العالية وتحتاج للدواء بشكل دائم. يقول مندوب آخر: إذا انقطعت الأدوية في هذه المناطق، فستكون النتائج كارثية صحياً واجتماعياً.

بين التسعير والاستغلال

أما المناطق البعيدة مثل عين العرب، فتمثل تحدياً خاصاً. هناك تعتمد الشركات على تخزين كميات من الدواء في مستودعات قريبة نسبياً، ثم تعيد توزيعها عبر صيدليات صغيرة، أحياناً يتم اللجوء إلى وسائل نقل متنوعة. يكشف أحد الصيادلة في المنطقة أن هناك خططاً لإدخال هذه الأرياف تدريجياً ضمن شبكة التوزيع الرسمية خلال الفترة المقبلة. المشكلة الكبرى التي يشكو منها الأهالي هي تفاوت الأسعار بين صيدلية وأخرى. أسامة ليس الوحيد الذي واجه هذه الصدمة.

يقول “هيثم . ك”، صيدلاني بريف حلب: التفاوت قد يشمل كل أنواع الأدوية، السبب الرئيس هو اختلاف المستودعات التي نشتري منها، بعضها يبيع بأسعار مرتفعة بسبب أجور النقل أو ندرة بعض الأصناف. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فغياب الرقابة جعل بعض الصيادلة يرفعون الأسعار بشكل غير مبرر. ويضيف هيثم: لا أنكر أن هناك تجاوزات، بعض الصيادلة يبيعون بسعر أعلى تحت ذريعة اختلاف المصدر، وهذا استغلال صريح.

شهادات من الأهالي

“أم وليد”، من قرية قرب الحاضر، تقول: أحياناً أذهب إلى ثلاث صيدليات لأبحث عن دواء واحد لطفلي، الأسعار تختلف، وأحياناً لا أجد الدواء أساساً، في النهاية أشتري من أول مكان أجده، لأن الوقت لا يسمح بالمزيد من البحث. “جمعة. ح”، مزارع من ريف أعزاز، يروي: مرة اضطررت لدفع ثمن وصفة دواء ضعف ما كنت أتوقع، فقط لأن الصيدلاني قال إن الدواء مقطوع ولا يتوفر إلا عنده، ماذا أفعل؟ أعود بلا دواء؟

تبريرات الصيادلة

من جهتهم، يرى بعض الصيادلة أن الأمر ليس استغلالاً دائماً، بل نتيجة طبيعية لاختلاف الظروف، يقول صيدلاني فضّل عدم ذكر اسمه: نسبة الربح لدينا لا تتجاوز 25% من سعر الدواء، وأحياناً تكون أقل بكثير، المشكلة في المستودعات التي تزودنا بالدواء بأسعار مختلفة، إضافة إلى أجور النقل. نحن أيضاً نعاني مثل المرضى. ويضيف: هناك صيادلة يلتزمون بالتسعيرة القديمة حتى بعد انخفاض أو ارتفاع الأسعار، ما يزيد من تفاوت الأسعار، بعضهم أيضاً يقدم عروضاً لجذب الزبائن.

غياب الرقابة

يرى الأهالي أن السبب الأكبر لفوضى الأسعار هو غياب الرقابة الحقيقية، يقول “أبو محمد”، من سكان ريف الباب: لا توجد جهة تراقب الصيدليات، كل واحد يبيع بالسعر الذي يراه مناسباً، نحن الضحية في النهاية. عدد من الأهالي يحملون المسؤولية للجهات المعنية بالصحة، التي لم تتخذ حتى الآن إجراءات صارمة للحد من هذه التجاوزات، ما جعل المواطن الحلقة الأضعف في معادلة الدواء. وكالعادة خاطبنا فرع نقابة الصيادلة بحلب منذ أيام بهدف إيضاح العديد من النقاط المثارة حول هذه المسألة التي تهم مختلف شرائح المجتمع، إلا أن أحدا لم يتجاوب معنا للأسف.

أبعاد إنسانية واجتماعية

إيصال الدواء إلى الأرياف لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل يمتد إلى تأثيرات إنسانية واجتماعية عميقة منها الحد من هجرة السكان نحو المدن بحثاً عن العلاج، وتعزيز الثقة بين المواطن والشركات، وتحسين الصحة العامة وتقليل الضغط على المشافي، وخلق فرص عمل لمندوبي وسائقي نقل وعمال مستودعات.

خاتمة وتوصيات

من خلال ما سبق، يتضح أن الريف الحلبي أصبح في قلب خطط شركات الأدوية، لكنه ما يزال يواجه تحديات كبيرة تتعلق بغلاء الأسعار وبعد المسافات وضعف البنية التحتية. الحلول المؤقتة مثل المستودعات الصغيرة والمندوبين بالسيارات خففت جزءاً من الأزمة، لكنها لا تكفي، المطلوب هو بناء شبكة متكاملة للتوزيع تغطي جميع القرى بشكل عادل، مع تشديد الرقابة على الأسعار، وتوفير دعم حكومي أو منظمات إنسانية لتخفيف العبء عن الفئات الأشد فقراً، فالأهالي لا يطالبون إلا بحق أساسي، وهو أن يجدوا الدواء متوفراً بالسعر العادل في صيدلية قريبة، دون أن يضطروا لقطع كيلومترات أو دفع أضعاف ما يملكون.

آخر الأخبار
أسواق دمشق تحتضن ذوي الإعاقة والدخل المحدود إيجاز بليغ.. خطاب الشرع في الدوحة يَستحوذُ على اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي محافظ إدلب يلتقي منظمات المجتمع المدني للتنسيق في حملة "الوفاء " منصة تفاعلية جديدة للتدريب السياحي والفندقي محافظ إدلب يزور ملتقى التخصص الجامعي لدعم الطلاب الجدد الدواء في ريف حلب.. رحلة شاقة بين الندرة والغلاء! توقيع عقود تصديرية.. على هامش فعاليات "خان الحرير- موتكس"     تشكيلة سلعية وأسعار مخفضة.. افتتاح مهرجان التسوق في جبلة السياحة تشارك في مؤتمر “ريادة التعليم العالي في سوريا بعد الثورة” بإستطاعة 100ميغا.. محطة للطاقة المتجددة في المنطقة الوسطى "خان الحرير - موتكس".. دمشق وحلب تنسجان مجداً لصناعة النسيج الرئيس الشرع أمام قمة الدوحة: سوريا تقف إلى جانب قطر امتحان موحد.. "التربية" تمهّد لانتقاء مشرفين يواكبون تحديات التعليم خبير مالي يقدم رؤيته لمراجعة مذكرات التفاهم الاستثمارية أردوغان: إســرائيل تجر المنطقة للفوضى وعدم الاستقرار الرئيس الشرع يلتقي الأمير محمد بن سلمان في الدوحة قمة "سفير" ترسم ملامح التعليم العالي الجديد خدمات علاجية مجانية  لمرضى الأورام في درعا الرئيس الشرع يلتقي الشيخ تميم في الدوحة الشيخ تميم: العدوان الإسرائيلي على الدوحة غادر.. ومخططات تقسيم سوريا لن تمر