ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
لم يكن الطريق إلى جنوب لبنان قبل خمسة عشر عاماً قادراً على حمل جميع الأفكار التي تراود أي متابع في ذلك الحين ليوم التحرير،
ولا بمقدوره أن يتسع للكمّ الهائل من الصور التي تتزاحم في ظل حالة من الخواء المسيطر على اعتقادات الكثيرين الممزوجة بمناخ يميل بطبعه إلى الاستكانة والتسليم باستحالة المواجهة، أو في الحد الأدنى صعوبة الاقتناع بجدواها.
فعندما تجد نفسك وجهاً لوجه مع الحقيقة التي طالما شكلت قافلة من الأحلام المؤجلة على مدى سنوات خلَت، يصبح لِزاماً أن تدقق في كل ما يمكن أن تلتقطه في مثل هذا اليوم، خصوصاً أنه كان مسبوقاً بما يشبه النفي لما سيحصل واستبعاد كلّي لما هو آت، أو على الأقل التشكيك بما يتم تداوله في الأروقة الجانبية وفي جلسات الصالونات السياسية المزدهرة آنذاك.
بهذا المُعطى لم يكن سهلاً أن تسوق لأفكارك حرية الاعتقاد بأن الانعطافة المنتظرة قد آن أوانها، وأن التحوّل في نهاية المطاف بات قاب قوسين وفي بعض المعادلات أدنى من ذلك بكثير، كما لم يكن بمقدورك أن تشيع الحالة دون أن تترك مساحة انتظار فاصلة بين الواقع والممكن، وبين الصورة النمطية السائدة وما سيأتي بعدها.
فالانعطاف السياسي والميداني لم يكن مقتصراً على النتائج بما تحمله، ولا محصوراً في الدلالات على اتساعها، بل في التحوّل النوعي في النظرة إلى المقاومة التي بدَت فيها المستحيلات الجاثمة على صدر الأمة منذ عقود طويلة متاحاً لها أن تزول، والطريق ممهّد أمام الخَلاص منها دفعة واحدة.
والأهم كان العودة إلى اليقين بأن الإرادة القابعة في العامل البشري للمقاومة كانت وستبقى المعيار للتحوّل الهائل، والمقياس للإنجاز حين يترافق بالقناعة والثقة والإيمان بالخطوات، وما تحمله في طيّاتها من انعطافة أكثر بُعداً مما هو متاح في المقاربة السياسية، حين بات بمقدور المنطق أن يقول إن العين المؤمنة بقضيتها قادرة على مواجهة المخرز.. بل وهزيمته، التي شهدنا تفاصيلها يوم التحرير في كل موضع تصل إليه المقاومة اللبنانية، وفي كل المظاهر التي خلّفها وراءه العدو في انسحابه الذي كان يحاكي انهياراً جمعه مع مرتزقته الذين لاذوا بالفرار قبله.
عند هذه النقطة تبدو المحاكاة الحقيقية للوقائع التي تجري اليوم متطابقة في المنحى، وإن بدَت متباينة في بعض تفاصيلها أو تحتاج إلى وقت أطول حتى نتبيّن فيها خطوط التقاطع التي سطّرها الصمود السوري ومن الزاوية ذاتها وبالأمس كانت ملحمة أبطال مشفى جسر الشغور كقرينة على هذه الإرادة، وإن كانت القاعدة المعمول بها أن ما يصلُح في ظرف قد لا يكون كذلك في ظرف آخر أو بمعيار أن الحالة تفرض إحداثياتها ومعطياتها وفقاً للتطورات الميدانية، وتُرسم تبعاً لها المشاهد السياسية المقابلة لها، أو اللاحقة، حيث المتغيّر يُقاس هنا بالمسار المتبدل باتجاهات سيتم طرقها لاحقاً مراراً وتكراراً.
وما يجذبك أنه منذ ذلك الحين كان قد أسّس للعودة إلى المربع الأول في حسابات الإرادة واليقين.. بالإرادة التي انتصرت رغم التحديات، كما أسّس في مرحلة لاحقة لحضور العامل البشري كجزء من منظومة التفكير السياسي لمحور المقاومة، وما تجسده سورية في المعادلات الناشئة بكل ما تلاها من هوامش وحسابات، وما رافقها من متغيّرات في النظرة والمقاربة، وحتى في محاكاة الواقع من منظور التجربة.
في المقارنة الطبيعية تعود الأشياء إلى أصلها، وما كان في ذلك الحين يقيناً أصبح لاحقاً طريقاً ومنهجاً نراه ونتلمّس الكثير من معطياته في المواجهة المفتوحة، التي خاضتها سورية على مدى أربع سنوات ونيف ويخوضها محور المقاومة بتعدد جبهات الصراع والصدام التي توصل في نهاية المطاف إلى الذروة ذاتها من المواجهة القائمة والتي تعزز حضورها، ولا نعتقد أن الاختلاف الحاصل في بعض التفاصيل أو العناوين يلغي القاعدة ذاتها الحاضرة دائماً، ولا يستبعد دلالة الإرادة حين تكون المقياس.
في الطريق إلى الجنوب يطول الحديث، وفي الطريق الذي تسلكه سورية والمقاومة ومحورها من تشبيك إضافي في عوامل المواجهة والمعادلات التي ترسيها على المستوى الإقليمي والدولي، تستعيد تفاصيل ذلك الطريق وتسترشد به، بل وتستدل من خلاله لتجاوز ما قد يعترضها من مفازات صعبة ومنعطفات تبدو ماثلة أمام الأعين وحاضرة في المخيلة التي حفظت عن ظهر قلب تفاصيله، وكيف السبيل إلى سلوكه من جديد، ولو كان هذه المرّة طريقاً نحو الشمال أو الغرب أو الشرق أو بين جهات الأرض وإليها جميعاً ..!!
a.ka667@yahoo.com