الثورة – جهاد اصطيف:
منطقة العرقوب الصناعية في حلب من أبرز المعالم الاقتصادية في سوريا، وواحدة من أقدم المناطق الصناعية في البلاد.منذ عام 1918، حين شُيّد أول معمل نسيج في تلك المنطقة، وحتى اليوم، ما زالت العرقوب تحتفظ بدورها الصناعي رغم كل ما مر على حلب من دمار وحصار وتراجع في البنية التحتية.
في هذا الحوار الخاص لصحيفة ” الثورة “، نتحدث مع رئيس المنطقة الصناعية في العرقوب، تيسير دركلت، للوقوف على تاريخ المنطقة، واقعها الحالي، أبرز التحديات، والمطالب التي يأمل الصناعيون تحقيقها لاستعادة ألق الصناعة الحلبية.
– بداية، متى تأسست منطقة العرقوب الصناعية؟ ولماذا تعتبر مميزة في تاريخ الصناعة السورية؟
يجيب دركلت: إن تاريخ العرقوب يعود إلى العام 1918، أي منذ أكثر من قرن، في تلك السنة، بدأ أول معمل نسيج بالعمل في المنطقة، ومن هنا يمكن القول: إن عمر العرقوب الصناعي يتجاوز 107 سنوات. خصوصيتها أنها ليست منطقة صناعية تقع على أطراف المدينة أو خارجها، بل تقع في قلب مدينة حلب نفسها، هذا الموقع الجغرافي جعلها قريبة من الأسواق والعمال والمواد الخام، وساهم في استمرار نشاطها الصناعي على مدى العقود الماضية.
العرقوب ليست مجرد منطقة إنتاج، بل يمكن وصفها بأنها ” مدرسة الصناعة الحلبية “، حيث تعاقبت عليها أجيال من الحرفيين والصناعيين، الذين ساهموا في بناء سمعة الصناعة السورية داخل البلاد وخارجها.
– ما أبرز القطاعات الصناعية الموجودة في العرقوب حالياً؟
يشير رئيس المنطقة إلى أن العرقوب منطقة صناعية متنوعة، وتمثل فيها القطاعات الأربعة الأساسية للصناعة السورية بنسب متفاوتة. القطاع الأكبر هو النسيجي والملابس، ويمثل تقريباً 50 بالمئة من إجمالي عدد المعامل والورش، ثم يأتي القطاع الهندسي بنسبة 20بالمئة، يليه القطاع الكيميائي بنسبة مماثلة، وأخيراً القطاع الغذائي بنسبة تقارب 10بالمئة.ويوضح أن حوالي 70بالمئة من المنشآت هي مشاريع صغيرة أو متوسطة أو حرفية، بينما 30بالمئة فقط هي معامل صناعية كبيرة، هذا التنوع يمنح المنطقة مرونة عالية في مواجهة الصعوبات الاقتصادية، لكنه أيضاً يجعلها أكثر تأثراً بأي اضطرابات في بيئة العمل.
ـ كيف تطوّر عدد المنشآت الصناعية عبر العقود، وخاصة بعد الحرب؟
يبين دركلت: قبل العام 2011، كان لدينا نحو 2200 منشأة صناعية عاملة في العرقوب، ومع اندلاع الثورة، انخفض العدد بشكل كبير نتيجة التدمير والنزوح وفقدان الكهرباء، ليصل العدد إلى 1250 منشأة فقط. بعد التحرير، بدأ العديد من الصناعيين بالعودة، واليوم تجاوز العدد 1400 منشأة عاملة بين معامل وورش ومشاريع متوسطة وصغيرة. صحيح أن العدد لا يزال أقل مما كان عليه قبل الحرب، لكن الزيادة المستمرة تعكس رغبة الصناعيين في النهوض مجدداً.
– ما أبرز التحدّيات التي تواجه الصناعيين اليوم في العرقوب؟
رئيس المنطقة الصناعية ركّز خلال حواره على قسمين رئيسيين من التحديات، الأول يتعلق ببيئة العمل نفسها (الخدمات، البنية التحتية، الأمن…)، والثاني يتعلق بجوهر العمل الصناعي (التكلفة، القرارات، المنافسة…).
ـ لنتحدث أولاً عن بيئة العمل، كيف تصفون واقع الخدمات والبنية التحتية اليوم؟
دركلت أجاب: للأسف، البنية التحتية في العرقوب متعبة جداً، فالطرقات متهالكة ولم تزفّت منذ سنوات طويلة، وهناك مشكلات في النظافة، إذ تتأخر البلدية في رفع المخلفات الصناعية بسبب قلّة الكوادر والإمكانات، ما يؤدي إلى تراكم النفايات وتشويه المنظر العام للمنطقة.
أما الكهرباء، فهي أكبر معاناة، حيث تتمّ تغذيتنا بـ 11 ساعة فقط يومياً، رغم مطالبنا المستمرة بتغذية دائمة منذ تحرير المنطقة، وشبكة الكهرباء نفسها قديمة، وأحدث مركز تحويل لدينا عمره نحو عشر سنوات، كما تضررت البنية التحتية للكهرباء خلال الحرب، ولم تجر صيانتها بشكل كامل حتى الآن.
– وماذا عن الوضع الأمني في المنطقة؟
يوضح دركلت أن الوضع الأمني تحسّن مقارنة بسنوات الحرب، لكنه لا يزال غير مثالي، ولدينا شكاوى متكررة من السرقات ليلاً، وخاصة في الورش الصغيرة، للأسف، أقسام الشرطة القريبة (ميسلون والميدان) لا تؤدي دورها كما يجب في تأمين المنطقة بسبب نقص العناصر، ما اضطر الصناعيين إلى تعيين حراس خاصين على نفقتهم الخاصة بالتنسيق مع مكتب أمن المنشآت، وهذا يعني عبئاً مالياً إضافياً على الصناعيين، وخصوصاً في ظل ارتفاع التكاليف التشغيلية.
– ننتقل إلى جوهر العمل الصناعي.. ما أبرز الصعوبات الاقتصادية التي تواجهكم؟
المشكلة الكبرى كانت برأي رئيس المنطقة، هي ارتفاع أسعار الكهرباء بالمقارنة مع دول الجوار، وهو ما ينعكس مباشرة على تكلفة الإنتاج.
ويضيف: نعاني من القرارات الاقتصادية غير المستقرة، إذ تتبدل القوانين والتعليمات باستمرار من دون دراسة كافية لتأثيرها على القطاع الصناعي.
هناك أيضاً مشكلة في الجمارك، إذ تدخل بعض البضائع الرديئة إلى البلاد عبر التهريب أو بأسعار منخفضة جداً دون رقابة كافية، فتنافس المنتج المحلي وتؤدي إلى خسائر فادحة للمصانع.
– هل تواجهون عراقيل إدارية أو بيروقراطية تعرقل العمل الصناعي؟
بالطبع، إجابة دركلت كانت متوقعة بنعم، وهي إحدى المشكلات المزمنة، فالإجراءات الإدارية بطيئة كما وصفها بدقة، حتى مناقشة القضايا الحيوية في اللجان الاقتصادية، تحتاج إلى قرارات أسرع وأجرأ لتشجيع الإنتاج وإعادة إحياء المصانع المتوقفة.
وهنا يؤكد أن الصناعي الحلبي معروف بقدرته على العمل في أصعب الظروف، لكن لا يمكنه أن يقاتل وحده في مواجهة البيروقراطية والروتين.
– كيف تصفون واقع الصناعيين أنفسهم بعد كل ما مرّ بهم؟
هذه الإجابة حملت الكثير من التفاؤل، يجيب دركلت: رغم الخسائر والدمار، فإن الصناعي الحلبي لم يستسلم، كثير من أصحاب المعامل عادوا بعد التحرير وأعادوا تشغيل ورشهم بإمكاناتهم الذاتية، دون انتظار أي دعم حكومي، فالروح الإيجابية موجودة، لكنها تحتاج إلى بيئة عمل مشجعة.
نحن لا نطلب معجزات، بل فقط مقومات أساسية: كهرباء مستقرة، طرقات نظيفة، أمن مستتب، وقرارات اقتصادية منصفة.
– لخِّص لنا ما أبرز المشكلات التقنية التي تعانون منها؟
على الفور أجاب دركلت: إن الكهرباء هي التحدي الأكبر، وهذه وجهة نظر الصناعيين التقنية، لأن الانقطاعات المفاجئة وتذبذب الجهد الكهربائي يؤديان إلى تلف المعدات الصناعية، وخصوصاً في معامل النسيج التي تعتمد على تشغيل مستمر للآلات.
كذلك، بعض المراكز التحويلية تعمل بأحمال تفوق طاقتها بكثير، ما يسبب أعطالاً متكررة، ونحتاج إلى صيانة شاملة للشبكة الكهربائية وتحديث في مراكز التحويل لضمان استقرار الإنتاج.
– من وجهة نظر الصناعيين، ما المطلوب لإنعاش العرقوب مجدداً؟
المطلوب أولاً: هو تحفيز الإنتاج المحلي عبر تخفيف الرسوم والضرائب عن المواد الأولية والمعدات المستوردة، كما نحتاج إلى ضبط الحدود ومنع دخول البضائع المهربة التي تغرق السوق بأسعار زهيدة وجودة رديئة، كذلك يجب دعم التصدير وإعادة فتح القنوات التجارية القديمة التي كانت تربطنا بالعراق ولبنان والخليج، فالعرقوب قادرة على النهوض، لكنها بحاجة إلى سياسة صناعية واضحة ومستقرة.
– وماذا عن دعم الدولة أو الغرف الصناعية؟
خلال إجابته على السؤال، يشيد دركلت بدورغرفة صناعة حلب التي تبذل جهوداً طيبة، ويضيف: نحن بحاجة إلى دعم حكومي مباشر، وخاصة في ملف الطاقة والتمويل، فبعض الصناعيين يواجهون صعوبات في الحصول على قروض لإعادة تشغيل معاملهم، لذلك نطالب بمبادرات تمويلية مرنة بفوائد منخفضة، لأن الصناعة لا تنهض بالكلام، بل بالاستثمار الحقيقي في البنية التحتية والتسهيلات المالية.
– بعد كل هذه التحديات، هل ما زال هناك أمل؟
دركلت بابتسامة يختتم حديثه: بالطبع الأمل هو ما يبقينا مستمرين، فالعرقوب عاشت أكثر من مئة عام، وتجاوزت الاحتلال والحروب والأزمات، كل ما نحتاجه اليوم هو إرادة اقتصادية جادة لإعادة الصناعة السورية إلى مكانتها الطبيعية، فحين تتوفر الكهرباء والأمان والقرار الجريء، كما قلنا، سيعود صوت الآلات يدوي من جديد في أرجاء العرقوب.
– كلمة أخيرة توجهونها للصناعيين وللقائمين على إدارة الملف الاقتصادي؟
رسالتي مزدوجة، للصناعيين أقول : استمروا، لا تيأسوا، فالصناعة هي هوية حلب وسوريا، وللقائمين على الاقتصاد أقول: اتخذوا قرارات شجاعة، وامنحوا الصناعيين الثقة، وأعود وأكرر، نحن لا نطلب إعانات، بل بيئة عادلة للعمل، فإذا توفرت هذه البيئة، فسيعود الإنتاج السوري إلى أسواقه التقليدية، وستعود العرقوب كما كانت يوماً قلب الصناعة في حلب.
الكلمة لنا
إذاً، منطقة العرقوب الصناعية ليست مجرد حي يضج بالمعامل والورش، بل رمز لمدينة قاومت الدمار وأصرت على الحياة، ففي كل آلة تعمل هناك، وفي كل ورشة تعود من تحت الركام، حكاية عن إصرار السوريين على البقاء والإنتاج رغم كل الظروف، ربما لا تزال التحديات كبيرة، لكن التاريخ يقول: إن العرقوب لا تموت، بل تتجدد في كل جيل.