مبادرات مجتمعية تنهض بالنظافة في حي الزاهرة بدمشق

الثورة – ميساء العجي :

في ظلّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، تتجلّى روح التكافل بين أبناء المجتمع السوري بأبهى صورها عبر مبادراتٍ شبابية ومجتمعية تنتشر في مختلف الأحياء، ومنها حي الزاهرة في دمشق، الذي يشهد نشاطاً لافتاً لعدد من المبادرات التطوعية الهادفة إلى تعزيز التعاون الإنساني والخدمي.

تتنوّع هذه المبادرات بين حملاتٍ بيئية، ودعمٍ تعليمي، وأنشطةٍ خيرية، يقودها شبّان وشابات من أبناء الحي بروحٍ من المسؤولية والانتماء، لتؤكد أن المجتمع السوري ما زال ينبض بالعطاء رغم التحديات.

يشهد حي الزاهرة في دمشق خلال السنوات الأخيرة زيادة سكانية متسارعة، بعد أن كان في السابق منطقة تضم بيوتاً عربية محدودة وعدداً بسيطاً من الأسر.

ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه البيوت إلى أبنية سكنية متعددة الطوابق، وامتلأت الحارات بالعائلات القادمة من مناطق مختلفة بحثاً عن الاستقرار والأمان.

لكن هذه الكثافة السكانية المفاجئة فرضت واقعاً جديداً على الحي، فارتفع عدد السكان فيه وازداد حجم النفايات اليومية، بينما بقيت خدمات النظافة العامة محدودة التي تقدّمها البلدية ، ما أدى إلى تكدّس القمامة وظهور مشكلات بيئية وصحيّة أثارت قلق السكان.

لذلك كانت مبادرة الدكتور إياد هاشم، أحد سكان الحي وطبيب الأسنان العائد إلى سوريا بعد سنوات من الإقامة في هولندا. حيث تزايد عدد السكان بشكل كبيروبالتالي لم يعد الحي كما كان.

البيت الواحد أصبح يضم ست أو سبع عائلات، و ذلك يعني نفايات أكثر وحاجة أكبر لحاويات جمع القمامة لكن للأسف، البلدية لم تكن قادرة على تلبية الطلب، فعدد الحاويات بقي كما هو رغم الزيادة الملحوظة.

محاولات رسمية محدودة

ويقول د هاشم : لقد توجه الأهالي أكثر من مرة إلى البلدية والمحافظة بطلبات لتأمين حاويات إضافية، لكنّهم تلقوا ردوداً تفيد بأن الإمكانيات محدودة، وأن الضغط على الخدمات في العاصمة كبير.

و ما كان مخصص لخمسين شخصاً أصبح يُستخدم اليوم من قبل أكثر من خمسمئة، دون زيادة موازية في البنية التحتية، ما جعل تراكم النفايات أمراً شبه يومي.

ورغم تعاون بعض فرق النظافة في تفريغ الحاويات أكثر من مرة في الأسبوع، إلا أن الوضع ظلّ غير كافٍ.

ومع غياب الدعم الكافي، بدأ الأهالي يفكرون بطرق عملية لحل المشكلة بأنفسهم بدل الاكتفاء بالشكوى.

مبادرة الحي

من الفكرة إلى التنفيذ يوضح الدكتور هاشم متسائلاً، لماذا لا نبدأ نحن؟ بدل أن ننتظر البلدية، يمكننا أن نجد حلولاً بسيطة من داخل الحي نفسه.

من هنا بدأت الفكرة بشراء براميل معدنية مستعملة وتحويلها إلى حاويات مناسبة لجمع النفايات.

و اجتمع عدد من أبناء الحي، وجمعوا تبرعات بلغت نحو 300 دولار، وهو مبلغ صغير نسبياً لكنه شكّل بداية حقيقية للمبادرة.

تمّ من خلال هذا المبلغ شراء البراميل من بائع خردة محلي بسعر يقارب خمسة دولارات للبرميل الكبير، ثم جرى تعديلها يدوياً لتصبح صالحة للاستخدام العام، مع تثبيت أغطية معدنية تساعد في سهولة التفريغ وتحافظ على النظافة.

ويضيف د هاشم:عملنا بأيدينا، قمنا بتصليح البراميل ودهانها وتوزيعها في نقاط استراتيجية داخل الحي.

لكنّها لم تكن كافية ، و لاحقاً تبرع أحد التجار بثلاثين برميلاً إضافياً، مما ساعدنا على توسيع المشروع ليغطي معظم الشوارع الرئيسية في الحي .

شراكة مع مديرية النظافة

ولكي تكون المبادرة فعّالة ومنظمة، تواصل الأهالي مع مديرية النظافة في دمشق للحصول على إرشادات حول أنسب طريقة لتصميم البراميل وتوزيعها.

وقدّمت المديرية بعض النصائح الفنية، وشاركت في تجربة ميدانية لتقييم مدى سهولة استخدامها من قبل عمّال النظافة،

وبيّن هاشم أن النتيجة كانت ممتازة، فالبراميل الجديدة وفرت جهداً كبيراً للعمال، وأصبح من السهل تفريغها بوقت أقل.

والأهم من ذلك أن الأهالي بدأوا يلتزمون أكثر برمي النفايات في أماكنها المخصصة .

كما اهتمت اللجنة الأهلية في الحي باختيار أماكن وضع البراميل بعناية، فتم توزيعها في نقاط تشهد حركة كثيفة للمشاة، مثل مداخل الأبنية والأسواق الصغيرة، مع الحرص على وضع عدد أكبر في المناطق التي يتواجد فيها الأطفال والعائلات لتقليل رمي النفايات في الطرقات.

مبادرة موازية لإصلاح المدارس

ولم تتوقف جهود أهالي الزاهرة عند موضوع النظافة فحسب يقول د هاشم بل امتدت لتشمل تحسين البنية التحتية التعليمية في الحي.

وبمبادرة مجموعة من الأهالي، وعلى رأسهم الدكتور إياد هاشم، تمّ تنفيذ مشروع لإصلاح مقاعد المدارس الحكومية التي كانت تعاني من التلف نتيجة الاستخدام الطويل ونقص التمويل، موضحاً كيفية إتمام العملية عبر جمع التبرعات البسيطة من السكان أنفسهم، كلٌّ حسب استطاعته.

بعضهم تبرع بعشرين ألف ليرة، وآخر بخشب أو أدوات نجارة.

وهكذا استطعنا بفضل ذلك، إصلاح نحو 600 مقعد مدرسي.

بعضها رممناه وبعضها صنعناه من جديد باستخدام مواد محلية.

اللافت في هذه المبادرة أن العمل تم من دون دعم من جمعيات أو منظمات خارجية، بل بجهود الأهالي فقط.

لم تكن هناك جمعية أو جهة مانحة، وإنما مبادرات شخصية، أصدقاء وجيران وأقارب.

كل من رأى أننا نعمل من أجل المصلحة العامة قرر أن يشارك ولو بمبلغ بسيط أو بجهد يدوي.

ثقافة التعاون بدلاً من التذمر

يرى الدكتور هاشم أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل من داخل المجتمع نفسه، لذلك علينا أن نتوقف عن انتظار الدولة أو المانحين ليحلّوا مشاكلنا.

إذا بدأنا نحن بخطوات صغيرة، يمكن أن نحقق نتائج كبيرة.

يقول الله تعالى: “لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

ويضيف أن هذه المبادرات لم تكن مجرد عمل خدمي، بل هي شكل من أشكال العمل الصالح والصدقة الجارية، مؤكداً أن كل جهد صغير يقدمه الإنسان لحيّه أو مدينته هو تقرّب إلى الله وخدمة للوطن في آنٍ واحد.

أثر ملموس وتفاعل شعبي

أحدثت المبادرات المجتمعية في الزاهرة تحسناً ملحوظاً في مستوى النظافة العامة، إذ تراجعت شكاوى السكان من تراكم القمامة، وازدادت مساهمة الأهالي في الحفاظ على الشوارع نظيفة.

كما انعكس المشروع على سلوك الأطفال، الذين بدؤوا يستخدمون البراميل المخصصة بدلاً من رمي النفايات عشوائياً.

ويقول د.هاشم: من جهة أخرى، أثار مشروع إصلاح المقاعد المدرسية اهتمام عدد من الأحياء المجاورة، ما دفع بعض الناشطين المحليين إلى التواصل مع أهالي الزاهرة للاستفادة من تجربتهم وتطبيقها في مدارس أخرى.

ويؤكد د.هاشم أن الفكرة انتشرت بين سكان المناطق الأخرى لأنهم رأوا نتائجها على الأرض.

ونحن لم ننتظر دعماً خارجياً، فقط بدأنا بالعمل، والباقي جاء تلقائياً.

تكامل الجهود بين المواطن والبلدية

ورغم أن هذه المبادرات لا تغني عن الدور الأساسي للبلدية في تقديم الخدمات العامة، إلا أنها تمثل نموذجاً للتعاون الإيجابي بين المواطن والجهات الرسمية.

فالمواطنون لا يسعون إلى استبدال مؤسسات الدولة، بل إلى دعمها وتخفيف الضغط عنها، في وقت تواجه فيه البلديات في دمشق وغيرها تحديات كبيرة بسبب النمو السكاني والضغوط الاقتصادية.

يقول أحد موظفي مديرية النظافة، فضل عدم ذكر اسمه: إن مثل هذه المبادرات تساعد بشكل ملموس، فعندما يشارك المواطن في الحفاظ على النظافة أو في إصلاح البنية التحتية البسيطة، فإن ذلك يخفف العبء عن البلدية ويخلق إحساساً بالانتماء والمسؤولية.

ويؤكد أن ما فعله أهالي الزاهرة نموذج يحتذى به.

نحو ثقافة مجتمعية مستدامة

يرى مختصون في التنمية المحلية أن ما جرى في الزاهرة يمثل تحولاً في الوعي المجتمعي، حيث بدأ المواطن يدرك أن التنمية لا تتحقق فقط بالقرارات الحكومية، بل بالمبادرات الشعبية التي تنطلق من حاجات واقعية.

كما تسهم هذه الأنشطة في تعزيز الروابط الاجتماعية داخل الحي، إذ يتعاون السكان في العمل التطوعي ويتشاركون المسؤولية في إدارة شؤونهم اليومية.

ويختم الدكتور إياد هاشم حديثه قائلًا: نحن نريد أن نعيد بناء بلدنا بأنفسنا، إذا كل حي قام بعمل بسيط يخدم بيئته ومدرسته وشوارعه، فسوف ننهض جميعاً، التغيير لا يأتي فجأة بل يبدأ من فكرة صغيرة وإرادة صادقة.

بهذا، يثبت أهالي حي الزاهرة أن المبادرة الشعبية يمكن أن تكون أداة فعالة في مواجهة التحديات الخدمية اليومية، وأن روح التعاون قادرة على تعويض ضعف الإمكانيات.

إنها قصة حيٍّ قرر أن يعمل بدل أن ينتظر، وأن يحوّل مشاعر التذمر إلى طاقة إيجابية بناءة، ومع استمرار مثل هذه المشاريع الصغيرة، يتشكل في دمشق نموذج جديد من المواطنة الفاعلة، حيث يصبح المجتمع شريكاً حقيقياً في التنمية، لا مجرد متلقٍّ للخدمات.

آخر الأخبار
بين القرار والصدى ..المواطن يشد أحزمة التقشف الكهربائي الاستثمارات السعودية في سوريا.. بين فرص التعافي وتحديات العقوبات المركزي قدم أدواته .. لكن هل نجحت بضبط سعر الصرف؟ من الإصلاح الداخلي إلى الاندماج الدولي... مسار مصرفي جديد متدربو مدارس السياقة بانتظار الرخصة انضمام سوريا المرتقب إلى التحالف ضد "داعش".. مكاسب سياسية وأمنية الدفاع المدني يُخمد حريقاً كبيراً في الدانا ويحمي المدنيين من الخطر عودة الدبلوماسيين المنشقين.. مبادرة وطنية تساهم بإعادة بناء الوطن إغلاق معمل "الحجار" يعود لارتفاع التكلفة وضعف الكفاءة التشغيلية إلزام المنتجين بتدوين سعر البيع للمستهلك ..هل يبقى حبراً على عبوة ؟!    المراكز الزراعية.. تحديات الرواتب المنخفضة وفوضى المدخلات تهدد الأمن الغذائي التحليل الإحصائي للبيانات يعزز استقرار النظام المصرفي حرق النفايات حلّ.. في طياته مشكلات أكبر بين الإصلاح والعدالة طفرة الذكاء الاصطناعي هل تنتهي ؟ التغذية والرياضة..لتجاوز سنّ اليأس بسلام وراحة مؤسسة بريق للتنمية ..دعم مبادرات الشباب واليافعين والمرأة كيف يشعر الإنسان بالاغتراب في المكان الذي ينتمي إليه؟ مبادرات مجتمعية تنهض بالنظافة في حي الزاهرة بدمشق التضليل الإعلامي.. كيف تشوه الحقائق وتصنع الروايات؟