الثورة- سمر حمامة :
في مدنٍ مكتظة بالناس، تُسمَع الضحكات وتُرى الحشود، لكن خلف الوجوه تختبئ مشاعر غريبة، غربة صامتة داخل الوطن.
ليست غربة السفر، ولا ألم الفراق، بل نوعٌ آخر من الانفصال، انفصال بين الإنسان ومحيطه، بين أحلامه وواقعه، بين ما يريد أن يكونه وما يُفرض عليه أن يكون.

تتكرر هذه الحالة عند شريحة واسعة من الناس، خاصة الشباب الذين يعيشون صراعاً بين الانتماء والاختناق، بين الحنين إلى الجذور والرغبة في الهروب من واقع مأزوم.
في سوريا، كما في دول عربية أخرى مرّت بأزمات اقتصادية واجتماعية، أصبح كثيرون يقولون: نحن لم نهاجر، لكننا نعيش كأننا في منفى داخل بيوتنا.
الاغتراب النفسي.. غربة بلا سفر
الاختصاصية النفسية هلالة درويش توضح مفهوم الاغتراب النفسي، بأنه شعور داخلي بفقدان الانتماء والارتباط بالمجتمع، حين يشعر الفرد أن قيمه وأفكاره لا تتطابق مع ما حوله، وأنه غريب حتى داخل أسرته أو مدينته.
هذه الغربة تتغذى من: الضغوط المعيشية، البطالة، فقدان العدالة، وانهيار منظومة القيم، ما يولّد إحساساً بالعجز واللامبالاة.
وتضيف درويش، حين يعيش الإنسان في بيئة لا تُنصف جهده، ولا تمنحه أملاً بمستقبل كريم، يبدأ بالتراجع إلى داخله، ويشعر أنه يعيش في وطن لا يعرفه.
شباب الوطن بين الطموح والخذلان
في استطلاعٍ أجريناه عبّر أكثر من 70% من الشباب عن شعورهم بـ”عدم الانتماء الفعلي” لواقعهم الحالي.
تقول رنا خريجة جامعية تعمل في مجالٍ لا تحبه: درست خمس سنوات لأحقق حلمي، لكنني اليوم أعمل فقط لأعيش.
لا أكره بلدي، لكنني لا أشعر أنني أنتمي إليه كما كنت أحلم.
ويضيف علاء موظف حكومي: “الوطن بالنسبة لي أصبح المكان الذي أعيش فيه جسداً فقط، أحاول ألا أفكر كثيراً، لأن التفكير يجعلني أتعب أكثر”.
هذه الأصوات ليست حالات فردية، بل تعكس ظاهرة اجتماعية متنامية تتجلى في: الانعزال، فقدان الحماسة، وتراجع الثقة بالمؤسسات.
وسائل التواصل وطنٌ بديل أم عزلة أكبر؟
المفارقة أن الشباب الذين يشعرون بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، يبحثون عن انتماء رقمي عبر الإنترنت، لكن الواقع أن هذا الهروب يزيد العزلة النفسية بدل أن يعالجها.
ففي العالم الافتراضي يجد البعض مساحة للتعبير، لكنه يفقد التواصل الحقيقي مع الآخرين، تقول الاختصاصية الاجتماعية دارين السليمان: نحن أمام جيلٍ يعيش حياة مزدوجة: واقعه لا يشبه ذاته، وعالمه الافتراضي يمنحه هوية مؤقتة.
هذه الفجوة تولّد شعوراً مستمراً بعدم الانتماء، فبين الوطن والمواطن هناك حاجة إلى استعادة العلاقة حيث الاغتراب النفسي داخل الوطن ليس مشكلة فردية فحسب، بل مؤشر على خلل اجتماعي عميق.
فحين يشعر المواطن أنه غريب في بلده، فهذا يعني أن العلاقة بين الدولة والمجتمع فقدت توازنها الإنساني، ولا يمكن معالجة هذا الشعور إلا من خلال إصلاحات حقيقية تعيد الثقة، وتمنح الإنسان الإحساس بأن جهده وكرامته لهما قيمة.
يقول أحد أساتذة علم الاجتماع “الانتماء لا يُفرض بالقوانين، بل يُبنى بالعدالة، وبإحساس المواطن أن له مكاناً في هذا الوطن، وأن صوته مسموع”.
الاغتراب النفسي داخل الوطن هو غربة الروح قبل الجسد، وطنٌ نراه بأعيننا لكننا لا نشعر به كما كنا، وربما تكون البداية الحقيقية للخروج من هذه الغربة، أن نعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الحلم والواقع، بين الانتماء والأمل.