ثورة اون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
لا يبدو حديث وزيري خارجية إسبانيا والنمسا بالتزامن مع تلميحات ومقارنات أجراها رئيس الوزراء الإيطالي حول الأوضاع في المنطقة ومواجهة داعش، – لا يبدو – في حال من الأحوال مجرداً من إسقاطاته ودلالاته،
وهو يروّج لمقاربات تبتعد في سياقها عن المفهوم الأميركي المعمم على الخطاب الغربي عموماً، أو على الأقل يشق طريقاً لا يتطابق مع الأميركي وقد لا يتقاطع معه في خلاصاته واستنتاجاته.
في القراءات الأولية تأخذ التباينات موقعها داخل الصف الغربي وتحديداً الأوروبي، من منظور فردي تتقاسم دوله أجندات تختلف بهذا القدر أو ذاك، وتفتح الباب على اجتهادات قد لا تروق لواشنطن ولا ترغب بها، وهي التي أوصدت الباب باطمئنان أمام الصوت الأوروبي الذي ما برح يجول في المقصورة الأميركية من دون أن يقترب حتى من حوافها، وتعزز الأمر في السنوات الأخيرة إلى أن تحوّل إلى مجرد صدى هامشي للصوت الأميركي.
وفق هذه المعادلة فإن التصريحات النمساوية كما هي الإسبانية تفتح الباب أمام تلك الاجتهادات التي تقترب – في بعضها – إلى حدّ الوصف بمحاولة الاستدراك في حدودها الدنيا، حيث تنتقل في مقارباتها من تدوير الزوايا إلى إعادة تصويب ما اعوَجَّ منها وما تعرّج في السياسة الأوروبية التي ارتضت أن تكون ذلك الصدى الباهت على المسرح العالمي أو الذراع المنفّذة للسياسات الأميركية وقبلت أن تتحكم أميركا بموقعها ودورها وعن بُعد..!!.
لكنها في سياق التداعيات وما تحمله تبدو أبعد من ذلك، خصوصاً في توقيت التصريح ومكانه، والتجرؤ الإيطالي على المقارنة بين ما كان في ليبيا ماضياً وما هو قائم حالياً، وكأنه يفتح الباب أمام اعترافات أوروبية متأخرة بالمسؤولية عما جرى من دون أي إقرار توثيقي بذلك، وهذا ما يعتقد البعض أنه بداية انفراط جزئي لحائط الصد الأميركي المسوّر بمواقف إقليمية اتكأت عليه لتغوص في أوحال وجودها الوظيفي جنباً إلى جنب مع الإرهاب المنظم الذي تقوده.
والأمر لا يتوقف هنا وفق معايير الحديث الأوروبي القادم من النمسا وإسبانيا وموقعهما داخل المنظومة الأوروبية باعتبارهما قاطرة تقف في العادة بالمنتصف الأوروبي الأقل تطرفاً أو الأقرب إلى الاعتدال في مقاربات الوضع وكانت على الدوام منصة مراجعة للسياسات الأوروبية الغارقة في حساباتها الخاطئة والمتورطة في معادلات الاستلاب الأميركي، وتحديداً فيما يخص قضايا المنطقة.
وإذا كان من المبكر الحديث أبعد من مفهوم الاستدراك، وإن لحق بها وزير خارجية بريطانيا بشكل مجتزأ وموارب بما يشبه نصف خطوة عند حديثه عما أسماه المرحلة الانتقالية، فإنها تصلُح في الحدّ الأدنى لتكون قصفاً تمهيدياً لاستدارة أوروبية أو انعطافة تخفف من حدّة تماهيها مع الأميركي، وتُحدث تمايزاً واضحاً في محاكاة الواقع القائم، خصوصاً أن الأوروبيين باستثناء فرنسا الغارقة في مستنقع أطماعها الاستعمارية، بدؤوا يشعرون بأن الارتدادات الناتجة عن أخطاء السياسة الأوروبية وانجرارها خلف الركب الأميركي تجاوزت أسوارها الوهمية إن لم تكن قد باتت بالفعل داخل الدول الأوروبية، فيما أميركا لا تقاسمها ذلك الشعور، ولا سيما في ظل تداعيات الهجرة وتدفق اللاجئين وما كشفته من ترهّل في المؤسسة السياسية الأوروبية التي لم تنجُ من الانتقادات الأميركية ووصلت في بعض المراحل إلى حدّ التهكم على التصرف الأوروبي.
قبل هذا وذاك يأتي الاستدراك الأوروبي كمحطة تتقاسم من خلالها أوروبا بمجموعها مخاوف واقعية وهواجس عملية تستقصي عبرها مسالك وتختبر ممرات تدرك بفطرة الجغرافيا وقواميس السياسة أنها لا بد من العودة إليها ولا تستبعد من فرضياتها السياسية أن عامل الوقت قد يكون الأهم رغم المراوغة البريطانية والمماحكة الفرنسية، والأكثر من ذلك أن أوساطاً أوروبية رسمية وغير رسمية بدأت تجاهر إلى حدّ الاعتراف بأن الطريق كان خاطئاً والسلوك لم يكن قويماً، وكما أدارت أميركا لعبة الفوضى والخراب في المنطقة، لن تتردد في إدارتها أوروبياً حين تلامس رحى الإرهاب العتبات الأوروبية أو أبعد من ذلك قليلاً.
والاستدراك هنا بمعناه السياسي يحاكي عتبة انعطافة تظهر رغبة لم تنضج بعد، وتحاكي تمنيات لا يمكن التعويل عليها، ولا تصح للمقارنة، وإن كانت تؤشر إلى مزاج سياسي يطفو على السطح الأوروبي ويعكس نيات متباينة، لكن النيات لا تكفي والرغبة لا تنجز خطوات من دون أن تقترن ببقّ الحصا العالقة في فم الكثير من الأوروبيين وتميط اللثام عما يجري من تذمّر وخشية وخوف وقلق وربما حيرة من السلوك الأميركي، حينها قد يكون الاستدراك بحجم استدارة وربما بمساحة انعطافة..!!
a.ka667@yahoo.com