ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
لم يتردد الرئيس بوتين في التأكيد أن سياسة روسيا ستبقى دائماً مسؤولة، في رد لا يقتصر على ما أثاره نتنياهو خلال لقائه، بل يشمل أيضاً ما سبقه من تقولات وادعاءات إسرائيلية ما يعكس رسماً روسياً واضحاً لخطوطها السياسية التي تحدد خطوط الآخرين بألوانها المختلفة.
فالحديث عن الخطوط الروسية لم يعد مجرد علامة فارقة ترسم حدود السياسة، وتضع اشتراطاتها على المساحات الفاصلة بين فن الممكن ومواقع التجاذب أو التنافر في العلاقات الدولية، التي تتعرض لتعرجات حادة في خطواتها وهي تحاكي تبدلاً جذرياً في تموضعها داخل وخارج لعبة المصالح، ببعديها المرحلي والاستراتيجي، بل توحي بأنها تمضي أبعد من ذلك حين تفرض إيقاعها لتعيد ترتيب أوراق الصراع ومكوناته، وتغيّر في قواعد الاشتباك ومعادلاته.
وكثرة اللغط، وتحديداً الإسرائيلي منه، لا تعني خلط المشهد أو تضليل الرؤية، فما كان خطاً أحمر في مرحلة سابقة يوضع هنا أو هناك لم يعد قابلاً للتسويق، ولا للأخذ به في موضع آخر بحكم التبدلات الهائلة في التموضع السياسي، ومواقع الدول وعلاقاتها والمفاهيم الطارئة التي تضع محددات إضافية دفعت إلى الجزم بأن الحراك الروسي الأخير قد بدَّل من مواقع الخطوط الحمر ومفاهيمها ودلالاتها..
وحدها «إسرائيل» تحاول أن تتخندق خلف خطوطها الحمر التي تدَّعيها، وترسم هالة من الافتراء والتضليل حولها، وهي تحمل لواءها تحت عناوين التهديد والوعيد، من دون أن تتردد في التهويل والمبالغة، إلى الحد الذي تتحدث فيه وسائل إعلامها عن الرزمة التي حملها نتنياهو إلى موسكو، وما يستلزمه ذلك من عوامل إضافية مساندة أو داعمة بحكم الحاجة إلى إظهار الحضور الإسرائيلي رغم أصابعه الموغلة في تأجيج الصراع،ودعم التنظيمات الإرهابية كي لا يتكرر سيناريو الاتفاق النووي الذي تبددت عبره مجموعة لا تنتهي من الخطوط الحمر الإسرائيلية التي كانت مرفوعة طوال فترة المفاوضات .
الحال يبدو أنه لا يختلف كثيراً بدليل أن الخطوط الإسرائيلية باتت عملة قديمة غير قابلة للتسويق روسياً، مضافاً إليها أن المقاربة الروسية التي تخطّت ما كانت قد وضعته واشنطن أصلاً من خطوط بألوان أخرى متعددة لن تأخذ بالكثير من الثرثرة الإسرائيلية المعتادة، ولن يكون لها موضع قدم في مفردات الحالة الروسية، بدليل أن ما خرج به نتنياهو لا يتقاطع في شيء مما ذهب به، رغم الحالة الدبلوماسية التي غلّفت اللقاءات والتصريحات في الآن ذاته.
الواضح أن روسيا حين خطت خطواتها كانت تدرك وبشكل مسبق كل الخطوط التي قد تضطر لتجاوزها بما فيها الأميركية، والكثير من تلك التي تحملها بعض الأنظمة الإقليمية إضافة إلى «إسرائيل»، ولديها ما يكفي من معلومات وبالوثائق عن الدور الإسرائيلي في دعم الإرهاب والعلاقة مع تنظيماته والمساعدات اللوجستية وغير اللوجستية التي تقدمها لتلك التنظيمات، ومن ثم كان من البديهي أن تتغير الألوان وأن تتعدل الخطوط وتتبدل ألوانها مع الحضور إلى موسكو.
رزمة الخطوط الحمر الإسرائيلية تتفكك بحكم الأمر الواقع، ولا تحتاج لكثير من الجهد للإدراك بأن ألوانها أيضاً تبدلت، وأن المشاغبة الإسرائيلية التي كانت تحدث بحماية ورعاية أميركية لم تعد صالحة للاستخدام في وقت تتغير فيه المعايير وتتبدل المعادلات، التي لا تكتفي هنا بإلغاء ما كان قائماً بقدر ما ترسم لوحة إضافية من خطوط التقاطع التي تبطل فيها الألوان القديمة وتفسد مناخات التلويح بها. وجاءت المحددات الروسية لتضفي قدراً إضافياً من الثقة بأن ما كان في الماضي لم يعد كذلك في الحاضر، وأن روسيا التي تحركت من موقع مسؤوليتها الفعلية على الساحة الدولية تعي أبعاد ما يترتب على ذلك، وأن الكوابح التي تحاول أن توقف العجلة الروسية لا موضع لها على خارطة تلك المحددات بموضعها الجديد.
الحراك الروسي الذي انطلق لا يبدو أنه سيتوقف عند خط هنا أو شرط هناك، ولن يعير الانتباه لمشاغبة هنا أو لمحاولة يائسة هناك، وهي تدرك بالمطلق أن كثيراً من الخطوط الحمر الأميركية قد تبدلت، وحال الخطوط الإسرائيلية لن يكون أفضل، بدليل ما خرج به نتنياهو، وما ستخرج به البقية التي قد تقصد موسكو لاحقاً.
فالخطوط قديمها وجديدها وبألوانها المختلفة تعيد تموضعها تحت ضغط المتغيرات في معطيات الواقع، وتبعاً لسياق ما ينتج منها، حيث الخطوط الحمر التي كانت في العادة علامة فارقة في السياسة الدولية، تتلاشى من معابر السياسة، حين تكون الحد الفاصل على جبهات المواجهة، لتنتصب على الضفة الأخرى في إطار البحث عن قرائن إضافية على انزياح المشهد نحو مقاربات جديدة تتبدل فيها خطوط التقاطع بعرضها وطولها.
والخطوط الحمر التي يتم تداولها في كثير من رتوش السياسة الهامشية تتسع فقط للثرثرة، بينما يضيق الموقع والدور والنتيجة، وتنحصر في إطار إثارة الغبار ليس أكثر، في مواجهة ينقشع عنها الغبار وتتخندق على جبهتيها رايات تتداخل فيها الألوان لكن من دون أن تختلط الاتجاهات والمعادلات أو المحددات المبدئية.
a.ka667@yahoo.com