ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
تتورم بعض التوصيفات حين تحاول أن تقرأ ما يجري، وكثير منها لا يكتفي بالإضافة من هنا وهناك والبناء على جدار من الوهم، بل أيضاً يحشو الكثير من مقولاته بمعلومات مريبة، وصلت حد الجزم بتفاصيل ما اصطلح عليه «تفاهمات روسية أميركية» أخيرة.
في المبدأ.. ثمة عشرات علامات الاستفهام عن موضوع التفاهمات الروسية الأميركية، والكثير منها وفق المعطى العملي لم يكن أكثر من سراب، وحتى الذي كان في إطار علني أو تم إشهاره هناك العشرات من الأسباب والذرائع التي حولته إلى رماد ذرته رياح المواجهة أو أعاصير الخلافات والحسابات المتباينة، التي نبتت على هوامشه أو كانت جزءاً من أصله.
وهذا يدفع إلى الجزم بأن التفاهم الروسي الأميركي، وحتى العروض المتبادلة التي استدعت في بعض الحالات لقاءات على مستوى وزيري الخارجية لم تكن – في أفضل حالاتها – أكثر من تكهنات قادت إلى استنتاجات غير صائبة، وبعض تفاصيلها خاطئة بالمطلق لاعتبارات تتعلق بحسابات ومعادلات فوق وطنية، وإن ظلت محكومة بهوامشها الوطنية البحتة، حيث المعادلات الإقليمية والدولية تبقى عاجزة، سواء كانت نتاج تفاهمات أم فرضتها نتائج المواجهة وحصيلة التجاذبات بين القوى الكبرى.
فالفارق في المقارنة بين البعد الجيو سياسي ومقتضيات الجغرافيا السياسية سيبقى ضاغطاً على أي مسار، مهما تكن الأطراف الضالعة فيه، والعامل الثاني الذي يحسم أي نقاش أن التطورات الميدانية والعسكرية المرافقة لا تشي بذلك على الإطلاق، بل على العكس تقود إلى استنتاجات معاكسة تماماً، بدليل أن الإعلان الأميركي عن البدء بتسليح بعض مرتزقتها والقوات المحسوبة عليها جاء في توقيت يُستدل منه الرغبة في التصعيد، ويستبعد أي فرضية تتعلق بالتفاهم مع الروسي، أو الأخذ بمقتضياته.
وتضيف التطورات الميدانية وخط سير المواجهة والإحداثيات التي فرضتها عاملاً أكثر وثوقية في استبعاد أي مساحة للتفاهم، أو على الأقل تستبعد إمكانية نجاح ذلك التفاهم وفق التعبير الدارج، حتى لو كان كذلك، فالجميع يدرك أن ما يجري أحدث انقلاباً في المشهد الميداني إقليمياً ودولياً، وأن الخطوة الأميركية تشكل استفزازاً بأبعاد مركبة، وهي لا تنطوي فقط على مناكفة سياسية بغطاء ميداني، وإنما تشكل مقامرة بأبعاد أكثر خطورة من سائر الخطوات السابقة، وهي على الأقل ترسم خطاً فاصلاً بين مرحلتين كانت إمكانية التفاهم واردة قبل ذلك وأصبحت شبه مستحيلة الآن وبما لاحقاً.
الأهم أن مثل هذه التفاهمات تحمل بذور فنائها من داخلها، حيث العدوان الأميركي بالتوصيف الروسي هو انتهاك للسيادة السورية، فيما رسائل التحذير الأميركية الخاطئة في الاتجاه والمضمون لم تجد موضعاً يمكن أن تصرف فيه حين يتعلق الأمر بهذه السيادة وبوحدة سورية وبالسلطة الشرعية التي ستمارس دورها غير منقوص، مهما كانت التحديات، وأياً تكن توصيفات السياسة وما يستتبعها، أو المحاصصة لأنها خارج أي نقاش.
تورم الحديث عن التفاهمات يبدو هذه المرة محمولاً على افتراضات خادعة أوصلت إلى حيث يكاد يقول المريب خذوني بالتوافق أو بالضرورة القسرية، أو لدواع غير معلنة، وهذا ليس من باب الاتهام، بقدر ما يحمل توصيفاً توثقه التجارب السابقة والحديث المبهم عن التفاهمات وأشباهها، وبعضها وصل إلى حد الجزم بأن الاتفاق الأميركي الروسي منجز، والمسألة مسألة وقت، غير أن هذا الوقت طال أكثر من اللازم، حيث امتد لسنوات بدل أسابيع، وليس هناك في الأفق ما يؤشر إلى إمكانية حدوثه على الأقل في الوقت الراهن.
مكافحة الإرهاب التي يتصدى لها الجيش العربي السوري وحلفاؤه لا تحكمها معايير السياسة، ولا الحديث المريب عن تفاهمات بدأت، وكأنها محاولة للصيد في ماء عكر بدأ يتسرب من بين أصابع طباخيها عنوة، ولا تخفي نياتها المبيتة بفرملة اندفاعة هنا أو لتحديد خرائط ووضع إحداثيات هناك، في وقت يعيد فيه ترتيب الميدان أجندات السياسة وليس العكس، بدليل أن كل الرسائل الأميركية المرمزة أو تلك التي جاءت من دون تشفير لم تكن تساوي الدخان المتصاعد من سلاح عدوانها أو ذاك الذي تزود فيه مرتزقتها، فيما الرسائل الجوابية ميدانياً تتواصل تباعاً.
التفاهمات في مثل تلك الأجواء ليست سوى جزء من تمنيات باتت من الماضي، وأضغاث أحلام تبددها وقائع الميدان، وترسم بدائلها إرادة طالما كانت الرهان الحقيقي في سنوات عجاف مرت، وفي مفازات قاسية ومؤلمة، وما عجز عنه الإرهاب لن يناله مرتزقة ولا من يحميهم، وسواء جاء ذلك بالتفاهم وهو لم يحصل، أم كان من دونه وهو المرجح.
a.ka667@yahoo.com