ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
يحفل مشروع مؤسسة وثيقة وطن بأهداف نبيلة تستوطن بين سطوره العديدة، وتتراكم على هوامشه التي تمتد في عمق المشهد الوطني والقومي بأبعادهما المختلفة، خصوصاً أنه في مئوية ذكرى وعد بلفور وما تركه من ندبات في وجدان الأمة وضميرها،
وهي تثير كمّاً لا ينتهي من الأسئلة المشروعة في ظل تهافت على طرح قضايا إشكالية لا تكتفي بالاستعراض التاريخي، بقدر ما تندرج في سياق الإدراك لمخاطر النتائج والتداعيات التي حملتها وزر مئة عام وتحملها على المستويات السياسية والثقافية والفكرية وحتى القانونية وصولاً إلى الإنسانية والتاريخية .
لكن هذا سيبقى من دون تأطير ما لم يقترن بجملة من العوامل الإضافية المرافقة، ولا سيما حين تكون جزءاً من الذاكرة الوطنية التي تريد توثيق المشهد بتفاصيله كما هي عناوينه، حيث الفارق بين العنوان وما تحته يكبر بتعدد المقاربات التي يحملها، والتي تنحو في أغلبها باتجاه تكريس واقع متغير ومتبدل يبدو فيه التوثيق حاجة ملحة بصياغات عديدة ومتنوعة، وتفرض أجنداتها الملحة على الواقع العربي الراهن.
النقاشات التي حملتها جلسات متخمة بالعناوين الكبيرة كانت أكبر من طاقة المتلقي أو المؤتمر على استيعابها، وهي تجرّ خلفها جملة من التداعيات الموازية في المقاربة الأكثر مقدرة على تحديد النسق المعرفي المتعلق بحقائق تاريخية لا يرقى إليها الشك ولا تطولها الريبة، ومع ذلك كانت هناك إضافات جعلت من المهم إعادة التصويب على الهدف الأساسي الذي يحمله العنوان قبل أي شيء آخر، خصوصاً ما تعلق منه بالوعاء الوثائقي القادر على الجمع بين متناقضات ضمن الحقيقة الواحدة، لتغدو معها الوثيقة حمالة أوجه وقابلة للتفسير المزدوج وفق وجهات النظر المتناقضة والمتصارعة على البديهيات.
فالسرد التاريخي أو إعادة السرد من منظور الرؤية المعاصرة يشوبه الكثير من العيوب، بحكم أن بعض هذا السرد مزيج من قناعات الماضي أو حقائقه، وأحياناً وثائقه مع ما استجد أو ما اكتشف لاحقاً، حيث المراجعة المتأنية تكشف أنّ كمّاً كبيراً من تلك الوثائق جاء لاحقاً ليعدل من تركيبة ما هو قائم، وبالتالي من الصعب أن تُصدر أحكامك على الماضي بمنظور اليوم، أو أن تحاكمه بمفهوم اللحظة الراهنة، والأصعب منه أن يكون المزج بين التاريخي والمعاصر محكوماً بقناعات وأحكام مسبقة تفقد عنصر التوثيق موضوعيته، وهو ما ينسحب على القراءة المعاصرة لوعد بلفور وما يحمله من تفاعلات جانبية يصعب الأخذ بها من دون إرفاقها بالظرف السياسي السائد في ذلك الحين والفرق بينه وبين الظرف القائم حالياً.
ويضاف إليه أن البدعة السياسية التي مرّ عليها مئة عام ليست مجردة من سياقها التاريخي، رغم أنه يمكن تحميلها كامل المسؤولية عما آلت إليه النتائج لاحقاً، غير أن ذلك مرهون بحدود التعاطي مع المشهد وما يحمله من تحولات نوعية في المقاربة السياسية، حيث الأخطر أنها محاولة مكشوفة للتأسيس عليها في الوقت الراهن، وإن كان بمحاكاة أخرى تستحضر الإثني قبل الديني، وتجذّر حالة الصراع نحو عوامل أخرى يكون التوثيق فيها جزءاً من تغييب الصورة، مع أن الفارق واضح وبيّن، بدليل أن الوعد الذي سوّقته بروباغندا غربية اعتمدت على مقولة أنه مرّ بغفلة من العرب ومن تحت الطاولة، فيما الذي يجري اليوم علناً وأمام الجميع ولا حرج فيه، وهناك من يتعمّد التزوير حتى في الوقائع الحية والمشاهدات العينية المباشرة.
عند هذه النقطة يبدو من المهم التوقف ملياً أمام الفارق المتراكم بين إعادة السرد كمنطلق لتوثيق وقائع فقدت صلاحية استخدامها، وبين مراجعة تاريخية تستهدف البناء على ما فيها وصولاً إلى الطموح المشروع بإعادة كتابة التاريخ حتى لو غلبت عليه لغة المعاصرة اعتماداً على الوثائق وما تقدمه، وتمهيداً لكتابة الوقائع المعاصرة بلغة الحاضر وشواهده وقرائنه، لتصبح وثيقة وطن قيمة مضافة في زمن متغير ومتبدل ويتعرض في جزء كبير منه إلى التحريف والتشويه.
التوثيق لا يستحضر الوقائع فقط، إنما يصوبها ويصوب معها الذاكرة، بل ويبني عليها لاحقاً بصورة تستبدل فيها لغة الشك الحاضرة في التفاصيل بلغة يصعب على الشك أن بنال منها، وترسم إحداثيات المشهد السياسي بالقرينة الوثائقية، لتكتب التاريخ من مفهوم وطني، وما طرحته جلسات النقاش في مؤتمر وثيقة وطن كان كفيلاً بأن ينتج الكثير من المقاربات والأفكار التي خلصت إليها حالة العصف الفكري، وبما يؤسس لواقع يستطيع أن يؤمّن كتابة التاريخ مجرداً من شخوصه الذاتية ومدعماً بحوامله الموضوعية، ويصلح أن يقدّم بدائل للرواية الغربية المهيمنة، بلغة تشبه هذه المنطقة، وبمفردات مشتقة من صلب حضارتها وتعكس سياقها التاريخي من دون تدخلات في الحذف أو الإضافة.
a.ka667@yahoo.com