ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
لم يكن اعوجاج جنيف وليد اللحظة، بل ثمة عيب بنيوي وصل حد التأزم في كثير من الأحيان، ولامس عتبة عنق الزجاجة غير مرة، ومع ذلك كانت تتم المحافظة عليه لاعتبارات سياسية دعائية زادت من افتقاده للفاعلية،
وربما إلى خفض سقوف التعويل عليه وضحالة الرهان على مخرجاته، بحكم أن الكثير منها كان نتيجة طبيعية لتجاذبات الإرادة السياسية الدولية والصراعات البينية القائمة فيها وعليها بين القوى الكبرى، والخلافات الدائرة على المهمات الوظيفية الحقيقية لمسار جنيف.
وجاءت الإضافات العديدة من خارج النص، لتُذهب ما تبقى فيه، وتخرجه من معادلة المساهمة الفاعلة في الحل السياسي ولو كان بشكل مؤقت، رغم ما كانت تبديه القوى المختلفة من تمسك شكلي زاد من ضعفه، وراكم من العقبات والعراقيل التي تحول دون الأخذ الجدي بمجرياته، لكنه حافظ على دورة انعقاده شكلياً، وخسر الجزء الأكبر من مضمونه نتيجة عوامل لم تكن التطورات التي سبقته وتجاوزته بمراحل زمنية شاسعة وحدها التي زادت من ضعفه، وأوصلته في بعض المراحل إلى شكل بروتوكولي يمثل الحد الأدنى -وربما أضعف الإيمان- كي لا يقال إن جنيف لم يحقق مبتغاه ودوره وهدفه.
وجاء الأداء الأممي بما مثله من شكوك متزايدة في غياب الموضوعية وافتقاد الكفاءة وضعف الإرادة ليزيد الطين بلة، من دون أن يعني ذلك تجاهل الإرادات المتصارعة، التي ساهمت في شلله سياسياً وغياب الأفق الواضح لمعطياته، حيث كان الدور الشخصي للمبعوث الأممي موضع تساؤل مشروع في العديد من المنعطفات، كما هو الحال في التفاصيل الملحقة به، والتي دفعت إلى الجزم بصعوبة -إن لم يكن باستحالة- الرهان أو التعويل عليه، وكان ذلك الدور أحد الدوافع القوية التي أوصلت إلى تلك الاستنتاجات.
ومع ذلك كان بمقدور جنيف أن يؤدي دوراً رغم كل العيوب التي عانى منها ويعانيها، في ظل التطورات المتلاحقة، لكن في ظل إصرار الكثير من الدول على الاستمرار بالمتاجرة ببيع الأوهام وشرائها، واستعداد الكثير من الأدوات على تلقف تلك البضاعة الكاسدة أوصل جنيف إلى عنق الزجاجة، ووضعه أمام استعصاءات أوصلته إلى حالة من العبث لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها، رغم اليقين أن الفرصة لم تنتهِ، ولم يصل بعد إلى طريق مغلق أو مسدود لا جدوى من السير فيه، ولا نتيجة مرجوة منه، في ظل واقع سياسي دولي لا يريد أحد أن يكون سبباً مباشراً في إفشاله، وتحمل نتائج وتداعيات أكثر خطورة من الفشل ذاته، ومن عدم الجدوى عينها.
في المقاربات السياسية الملحقة بقراءة التداعيات الناتجة عن حالة الاستعصاء، كان لابد من الأخذ بتلك المعطيات التي لا تزال تدور حولها الشكوك، وأحياناً ما هو أبعد من ذلك، وفي مقدمتها السياق المرتبط بتطورات المشهد الإقليمي والدولي، والعلاقات القائمة بين الإرهاب بحد ذاته وجدوى الاستثمار فيه، حيث كانت التفسيرات المغلوطة لمدخلات جنيف ومندرجاته جزءاً من لعبة التسخين والتصعيد الإقليمي، التي وجدت انعكاسها في الحالة الوظيفية للإرهاب ومشغليه، ومنظومة العمل الغربية التي أرادت إعادة المتاجرة بالأوهام على نطاق مغاير، أساسها رفع سقوف المغامرة ببقايا النتف السياسية للتنظيمات الإرهابية، وإعادة تعويمها على نحو يتسق مع المكابرة وعدم التسليم بمخرجات فشل المشروع الإرهابي على نحو أكيد.
فكانت المشاغبة تبدأ من حيث انتهت إليه الحال الإرهابية كمنظومة، وكشكل من أشكال الهروب من أزماتها المرتبطة على نحو وثيق بالتداعيات والتطورات، حيث يشكل التصعيد ورفع السقوف خطوة أولى تنتهي إلى حيث يحاول الأميركيون اللعب على متناقضات اللحظة دون أن يكونوا في الواجهة، معتمدين مرة أخرى على الأدوات، وعلى صعود نجم التحالفات السعودية الإسرائيلية، ومحاولة تمرير ما سميت اصطلاحاً بصفقة القرن على أنقاض تحطم احدى الحقب المزدهرة للمشروع الإرهابي، حيث تعثر المصالحة الفلسطينية التي كان يُراد لها أن تكون حاملاً أساسياً من حوامل الانتقال إلى الضفة المقابلة، أحد المؤشرات التي تقدم بعضاً من التفسير لذلك التصعيد الإرهابي، وبعضاً من التحليلات والاستنتاجات لتعثر جنيف عبر إيصاله إلى مرحلة الصدام المؤجل.
وبالتوازي معه كان الإصرار من قبل المبعوث الأممي على استحضار تفسيرات انتقائية، وإحضار زوايا ملحقة من خارج نص جنيف لتلعب دوراً في توقيت حالة الاستعصاء التي كانت هدفاً بحد ذاتها، ومؤشراً واقعياً كان يُراد من خلاله لجنيف أن يصل إلى حيث وصل، ولمقارباته المختلفة أن تكون بهذا المستوى من الاعوجاج الناتج عن اختلال وضعي في محاكاته للتطورات، وبيني في استدلالاته السياسية، من دون أن نتجاهل حقيقة محاولة التشويش على ما كان يُنتظر من سوتشي، وما يعوّل عليه، قياساً على ما تحقق في آستنه وما يستجرّه، خصوصاً بعد القمة الثلاثية.. وقبلها الثنائية، باعتباره الحاضن السياسي لكل ما يترتب لاحقاً.
المفارقة المثيرة أن المناخ والتوقيت ربما بشكل جزئي كانا يؤشران إلى توافر ظروف ومعطيات تجزم بإمكانية تحقيق اختراق يمكن البناء عليه، وهذا ما يدفع إلى الجزم بأن التحرك الأميركي وما رافقه من تداعيات موازية من قبل الأدوات والمرتزقة كان مقصوداً بذاته، ومدفوعاً بعوامل ذاتية أميركية بحتة ناتجة عن مقاربات متباينة داخل الإدارة الأميركية.. أقلها تلك التي تشي بها التباينات الحادة بين ما يصدر عن الرئيس الأميركي وبقية أركان إدارته، حيث لا يكفي توازع الأدوار هنا لتفسيرها أو لتقديم مقاربة منطقية على الأقل.
جنيف.. الذي يتحمل المبعوث الأممي المسؤولية الأكبر فيما آل إليه.. يواجه منعطفاً ربما يكون الأكثر خطورة منذ انطلاقته، وتحدياً هو الأصعب، بحكم أن الكثير مما تراكم في الماضي يُعاد استحضاره الآن، والكثير من العقبات التي تجاوزها سابقاً يتم استرجاعها، والأخطر من هذا وذاك أنّ جميع المقاربات الخاطئة التي سبق أن قدمها المبعوث الأممي، وغيره وأصرّ عليها، تتم العودة إلى محاكاتها بطريقة ربما كانت الأسوأ، لأن ما يخسره جنيف اليوم من رصيده سيكون من الصعب استرداده.. ومن الاستحالة بمكان تعويضه.
a.ka667@yahoo.com