ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير علـي قـاسـم
رغم أن الطريق إلى هلسنكي يبدو مفتوحاً وبالاتجاهين لاحتضان القمة الروسية الأميركية، إلا أن ذلك لا يعني أن الملفات الشائكة والمعقدة تشبه ذلك الطريق، سواء كان في الشكل أم المضمون،
حيث الساعات الثلاث المخصصة للقمة لا تبدو كافية من الناحية النظرية للغوص في عمق العلاقات الروسية الأميركية وتفرعاتها المتصلة بالقضايا المدرجة على جدول أعمالها، بدليل أن ما يُحذف أو يُضاف على القائمة الأولية لا يزال يشهد تواتراً لافتاً في حركته.
فالمسألة لا تبدو مرتبطة فقط بالإرادة التي تحكم نيات البلدين على ما فيها من تباين، بل تبدو مأخوذة في سياق التجاذبات التي تنحو باتجاه التعقيد أكثر مما تتجه نحو الحلحلة، في ضوء مؤثرات جانبية تبدو حمّالة أوجه ويمكن توظيفها في الاتجاهين، وخصوصاً المتعلقة بالموقف الأوروبي من القمة وهواجسه المتصلة بإمكانية إحداث اختراق يكون على الحساب الأوروبي، أو في أقل تقدير تكون فيه أوروبا الخاسر الوحيد، ولاسيما على ضوء التسريبات المتعلقة بإنجاز الكثير من الملفات قبل انطلاق القمة، والتي تحتاج فقط إلى توقيع الرئيسين أكثر مما هي بحاجة للنقاش مجدداً، ويُضاف إليها ما يُثار داخل الأروقة الأميركية من تباينات تشي بعودة لعبة توزيع الأدوار في الشد والرخي.
هذا يعني أن هلسنكي ليس بمقدورها أن تتجاوز ما يبدو مستعصياً على التفاهم نظراً لتراكمات سنوات طويلة، مضافاً إليها الفائض الذي كرسته أشهر وجود ترامب في البيت الأبيض وهذا الكم من «الترف» إلى حد الإتقان في ابتداع العداوات المجانية من غرب الأرض إلى شرقها.. مروراً بأقصى شمالها وجنوبها، من دون أن ننسى ما خلفته من ارتجاج سياسي في المقاربات التي بدت ملتبسة في أكثر من منطقة وتحديداً ما يتعلق بالموقف من محاربة الإرهاب وصولاً إلى صيغ الاستثمار فيه، وما أفرزته هذه الأشهر من إرهاصات صعبة وما شهدته من مخاضات عسيرة وطويلة لا تزال تعاني أوجاعها المزمنة أمم الأرض قاطبة.
لا نعتقد أن ذلك كله يغيب عن أذهان الأميركيين.. ويشاطرهم في ذلك الروس بحكم التجربة التي شهدت تفاوتاً حاداً في المقاربات الثنائية، حيث تُراكم روسيا من أوراق القوة لديها مشفوعة بما حققته على المسرح الدولي من بصمات سياسية ودبلوماسية وعسكرية، وساهمت بفاعلية في التخفيف من حدة الانزلاقات التي شهدتها ملفات عالمية عديدة، وربما في مرات كثيرة تمكنت من نزع فتيل مواجهات وحروب، وفي الحد الأدنى كانت عامل ردع حال دون ارتكاب حماقات لا يمكن التكهن بعواقبها الوخيمة، مقابل فشل أميركي في تقديم صورة تليق بأميركا القوة العظمى، والتي استفردت بقيادة العالم قرابة عقدين من الزمن كانت كافية للحكم على الرعونة الأميركية بتعاقب إداراتها المختلفة.
وجاءت إدارة ترامب لتفتعل الحروب العبثية من دون طائل فيما كانت تمارس الابتزاز، وعملت على تعويم نهج المبازرة السياسية وصفقات الإذعان على النطاق العالمي، وإن كانت المنطقة قد حظيت بالقسط الوافر من تلك الصفقات، فإنها كانت الأكثر معاناة من التداعيات وما حملته من عواقب أوصلت الأميركي في أحيان كثيرة إلى الحائط المسدود، بحكم أنها أثقلت على أدواتها في المنطقة إلى درجة تفيض عن قدرتها على التحمل.
الحاجة الأميركية للروسي تبقى ذاتها مع ما راكمته رعونة الإدارة الحالية في مقاربة ملفات بدت ملتبسة في جزء أساسي منها، حيث أباحت الضرورات الناتجة عن أخطاء السلوك الأميركي النقاش مع الروس في المحظورات التي سجلت وجعاً مزمناً لم تجد واشنطن غضاضة في الإقرار بتلك الحاجة، لكنه إقرار محفوف بآنيته ومخاطر الانقلاب عليه، والاستدارات الارتدادية.
الطريق السياسي الذي أوصل الأميركي والروسي إلى هلسنكي يحتاج إلى خط رجعة لا يزال من المبكر تلمّس معالمه، في ظل تكهنات واستنتاجات تشي بأن العقبات والعراقيل تنتصب في الزوايا المنسية، كما هي في المسارات الجانبية وعلى المنصات المفتوحة، حيث ما يُفرّق أكثر مما يجمع، وما يُبعد أكثر مما يُقرب، وما يُعوق أكثر مما يسهّل، لكن تبقى قمة الضرورة للروسي كما هي للأميركي، وفرصة للعلاقات الدولية كي تستعيد أنفاس وفاقها المقطوعة، والأهم أنها بوابة لتحبير الإحداثيات الطارئة على المشهد الدولي، وإن كان من المبكر الحديث عن قرب التسليم الأميركي ببزوغ نظام عالمي جديد ينعى ما سبقه.. ويدشن ما قد يلحق به.
a.ka667@yahoo.com