ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم :
أرخت التطورات المتتالية في الجنوب بظلالها على المشهد السياسي انطلاقاً من الإحداثيات الميدانية التي كانت العنصر الأساسي في إطلاق المتغيرات، وما عداه كان في حصيلته النهائية إعادة رسم المواقف بما يتناسب مع المشهد الميداني بتلوناته المختلفة،
حيث الإنجازات التي تحققت في درعا وجوارها لم تعد تقاس بالبعد العسكري على أهميته ورغم ما ينطوي عليه من إتقان يصل حد الإعجاز، بل في المفازات الصعبة التي استطاع الجيش العربي السوري أن يحقق من خلالها ما بدا قلباً لكل المعادلات، وصولاً إلى التسليم غير المشهر إعلامياً بهذه الوقائع التي أحدثتها الإنجازات في الجنوب باعتبارها سياقاً لمشاهد تصنع الفرق.
أول المشاهد كان تداخل الخيوط والعوامل الإقليمية والدولية على نحو لم يكن بعيداً عن الإدراك، وتمَّ التعاطي معه بحسابات تأخذ شكلها ومضمونها من الأبعاد التي تنطوي عليها في الاستدلال السياسي للحرب على الإرهاب من منطوق التعارض الحاد في المقاربات التي كانت على طرفي نقيض، مضافاً إليها هذا الكمّ الهائل من التهويل والمبالغة السياسية المحكومة بقواعد كانت سارية المفعول في ذلك الحين، فجاءت معركة الجنوب لتثبت بطلان مفاعيل جميع القواعد، وأنتجت بالمقابل معادلات لها إحداثياتها، حيث إن ما كان صالحاً للاستخدام قبل معركة الجنوب لم يعد مقبولاً حتى في التداول السياسي.
مركزية المشهد في الجنوب وجواره الجغرافي، بدءاً من الأردن.. وصولاً إلى الكيان الإسرائيلي والعلاقة التي أنتجتها سنوات العمالة مع إسرائيل، والدور الذي صبغ مفهوم الحسابات الخاطئة عن شكل الخطوط الحمر، والأوهام التي نسجتها مخيلة البعض.. مروراً بالدور الأميركي عبر مرتزقته المتمركزين في ذلك الجوار، كانت الإحاطة السياسية بها تبدو أكثر تعقيداً من أي منطقة ومن أي مشهد على امتداد الجغرافيا السورية، رغم الحديث السوري الدائم واليقيني أن ما يسري على درعا هو ذاته الذي سرى على ما سبقها من مناطق كانت متخمة بالحسابات والمعادلات التي أفاضت في رسم الخطوط بتدرجات ألوانها.
الوقائع الميدانية بدت سباقة في خطّ الرسائل الواضحة بأن ما يجري لا يعكس تلك التخمينات، ولا يأخذ بالاستنتاجات المبنية على حسابات تجاوزها الزمن، باعتبار أن الكثير من المشاهد التي كانت تساق على أنها قرينة على صعوبة المعركة وتحدياتها الكبيرة بدت مقلوبة، وكان على السياسة حينها أن تعيد حساباتها، وباشرت برحلة اللهاث للحاق بتطورات الميدان، وكانت في بعضها تجد صعوبة إلى حد الاستحالة في هضم ما يجري، وفي أفضل الاعتبارات كانت ترسم الحالة على أنها نتاج عوامل آنية مؤقتة.. سرعان ما بددتها التطورات بشكل نهائي، وساقت بالمقابل شواهد معاكسة على أن درعا كانت وستبقى لها رمزية توازي مساحة ما تحتفظ بها ذاكرة السوريين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
على المقلب الآخر كانت التهويلات جزءاً من الافتراضات.. وحروبها العبثية التي فقدت آخر رصيد في جعبتها تآكلت معها على نحو صريح الوعود التي أذابتها ضراوة المعركة من جهة، والتكنيك العالي المستخدم من جهة ثانية، فيما كانت أصداؤها تتردد في قاعات هلسنكي من خلال محاولة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، حيث التهديد والوعيد يتحول إلى استجداء في أفضل الحالات، في حين كانت مشاهد المرتزقة التي استقوت بإسرائيل مرمية على قارعة الطريق، بعد أن عجزت عن استجرار مشاهد الشفقة، حتى الكاذبة منها وما تصنعه من فرق في المقاربة.
المشاهد تتكرر في أكثر من اتجاه، ويبدو أنها تمتلك قابلية غير مسبوقة للتكرار، وخصوصاً أن معركة الجنوب أعادت الأحجام إلى وضعها الطبيعي، فيما الاستطالات المرضية التي كانت تنخر في جسد المشاهد السياسية يتم استئصالها تباعاً، والتورمات التي بدت خارجة عن سياق المشهد تتكفل المشاهد الميدانية بالتعامل معها، لتعود الأمور إلى نصابها، حيث ما كان تهديداً ووعيداً بات اليوم استجداء، ومن كان متوهماً أو موهوماً تنقشع الغمامة من أمام ناظريه، وما كان يسوّقونه وهماً يرسم الحقيقة المطلقة بتضخيمه ونفخه يعود إلى ما كان عليه، حيث المشاهد بتتابعها تصنع الفرق ولحظاتها الحاسمة ترسم المقارنة وتفرض نفسها مقياساً ومعياراً بين زمنين وتاريخين لكل منهما معادلاته وحساباته، وأيضاً مخرجاته، ولكنها تبقي على السمت الذي حددته إحداثيات الميدان وما بعده من خرائط دالة عليه.