الملحق الثقافي:
سلام الفاضل
لا يوجد في الطبيعة عنصر منعزل فعلياً عن بقية العناصر، لأن البيئة الإحيائية مجموع متماسك بنظام متوازن لعضوية كوكبية أرضية واحدة. وعليه فإن الجراثيم أو ما يدعى عموماً بالمتعضيات الدقيقة – من الواضح – لم تكن تشكل بداية للحياة فحسب بل هي حاضرة مقيمة ولازمة لمتعضيات اليوم كافة، وتحيط بالإنسان وتعمل داخل عضويته.
انطلاقاً من هذه الرؤية الشاملة لبداية الحياة على سطح الأرض جاء كتاب (للجراثيم حكاية في تفسير منطلق الحياة)، تأليف: مصطفى قره جولي، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، الذي تناول بين دفتيه الحديث عن التداخلات المتينة والمصيرية ما بين كائنات اليوم والمتعضيات التي سبقتها.
العالم الصغري
لقد تكاثرت أشكال الحياة وتمايزت بنياتها باستيعابها لبعضها وليس باستثنائها لبعضها. وإننا غالباً ما نبخس العالم الصغري قيمته لأنه خارج حدود الرؤية بالعين المجردة، ومع ذلك فإن تاريخ الإنسانية بالكامل من الكهوف إلى ناطحات السحاب يمثل أقل من 1% من عمر الحياة نفسها.
يعود ظهور الحياة على سطح الكرة الأرضية – بحسب ترجيحات العلماء – إلى 3,5 مليار سنة، حيث بدأ سطح الأرض يتبرد فتشكلت طبقة رقيقة نسبياً نسميها القشرة الأرضية تتخللها ارتفاعات وانخفاضات، وثارت البراكين وتناثرت، أو سالت حممها، وبدأت مختلف صفائح القشرة الأرضية بالتحرك فوق معطف الأرض المنصهر للتباعد عن بعضها مشكلة سهولاً أو قيعاناً لمحيطات المستقبل، أو أنها كانت تتصادم فيما بينها ما أدى إلى نشوء السلاسل الجبلية. وسط هذا المخاض الأول الذي كان يجتاح الأرض كانت الحياة تخطو خطواتها الأولى في الطريق إلينا على هيئة مستعمرات من البكتريا تشكل بساطاً رخواً بلون بنفسجي أو أخضر بدأ يغطي كامل مساحة الكوكب في علو صخوره ومهاد وديانه.
وبتتبع العلماء لمنبت نشوء الحياة على سطح الأرض فقد افترض بعضهم أن الحياة عليها ربما كانت قد ظهرت على حدود الصفائح الأرضية القديمة في مياه دافئة ضحلة حيث تتفاعل الغازات الغنية بهيدروجين باطن الأرض مع الغازات الغنية بكربون الأجواء المحيطة. حيث تشكل حركية الكربون هذه واحداً من أسرار الحياة الكبرى، عندما تتحد ذرات الكربون بالهيدروجين والأوكسجين والآزوت والفوسفور والكبريت لتعطي العديد من الجزيئات المختلفة التي تشكل القاسم المشترك للحياة بنسبة 99% من الوزن الجاف لكل كائن حي من البكتريا وصولاً إلى الإنسان، وهو ما يقود إلى افتراض وجود سلف مشترك في زمن الحياة.
إطلالة العالم الصغري
إن الأشكال الأولى للحياة على سطح الأرض كانت على شكل مكورات من DNA, RNA إلى جانب بعض الأنزيمات والبروتينات. وقد جاءت الجنسانية لتلعب دوراً بارزاً في إجراءات ضبط التعايش على مستوى الجينات ما بين متعضيات شديدة الاختلاف. وإذا ما أخذنا الجنسانية بالمعنى الواسع نرى أنها عبارة عن إعادة اتحاد جينات من أكثر من مصدر واحد، وهو أمر يكتسي أهمية في عالم تسوده الفقاريات من أجل التكاثر.
إن الخلية البكتيرية أو ما يعرف بعلم الفيزياء بـ (الحالات المائعة أو الغازية المتحركة القابلة للتبدل) لا تمتلك سوى الحد الأدنى من التعليمات الأساسية المتعلقة بانتساخها والحفاظ على بقائها، وكل إمكانية إضافية تسمح لها الحفاظ على حياتها في ظروف خاصة تأتي عبر جزيئات مورثية «زائرة» تطوف ما بين مضيف وآخر، وتبدو هذه السلوكيات التي تتبعها وحيدات الخلية غريبة بنظر الإنسان لأن تبادلاتها الجنسانية عديدة وتتكرر مع وما بين خلايا مختلفة في الوقت الذي تبقى فيه وفية لجنسها، على حين أن الكائنات البشرية ومعظم النباتات والحيوانات أو ما يعرف بلغة الفيزياء بـ (الحالات الصلبة في قالب وراثي نوعي ثابت) لا تمتلك الإمكانية لتغيير مظهرها الخارجي أو استقلابها لمجرد تلقيها جينات زائرة.
إذاً، لا تتصرف الخلية البكتيرية الواحدة في الطبيعة كما لو كانت بمفردها بل على العكس فهي بانتمائها إلى سلالات تنشئ مجتمعات بيئية تستجيب للمحيط بصورة تعاونية تشاركية، وتعمل في كل مكان من البيئة الحيوية مع العالم الكبري من حيوانات ونباتات وفطريات بنفس الحركية والتناغم في العضوية الواحدة. فهي تحول بقايا الإنسان مثلاً إلى غذاء وطاقة لأحياء أخرى. وتحافظ على حلقة العناصر العضوية واللاعضوية للبيئة الحيوية. وتعمل على تنقية مياه الأرض وتخصيب التربة وتجديد الاحتياطي من الغازات الفاعلة في الأجواء المحيطة، وهي بذلك تسهم في استقرار الحياة بشكل عام.
وفي الختام يمكننا القول إن هذه المتعضيات الدقيقة تشكل منذ البداية تنظيمات مستدامة تعمل داخل العضوية وخارجها، كما أن البكتريا الموصومة بإثارة المرض عند الإنسان هي بلا شك العامل الأهم في تاريخ حياته على هذا الكوكب.
التاريخ: الثلاثاء 8-1-2019
رقم العدد : 16879