على امتداد الوقت الممتع برفقة أصوات جوقات (لونا) للغناء الجماعي لم تفارقني صور تلك البلدة الوادعة الساحرة، المتسلقة على جبال القلمون والمحتمية بها، والتي لا تزال صلواتٌ ترتل في كنائسها باللغة الآرامية، لغة المسيح السوري.
لا أقصد صور معلولا المتتالية بسحر ورشاقة على شاشة القاعة الكبيرة في دار أوبرا دمشق، وإنما صورها المحفوظة بعمق في الذاكرة منذ اصطحبنا إليها قبل أربعين سنة تماماً أستاذنا ميلاد الشايب ابن معلولا الأصيل، والأصيلة، ذلك الفنان والمعلم الرائع الذي منح مهنة التعليم نكهة أبوية تدوم لزمن أطول بكثير من الذي منحته له الحياة.
مع تتالي الصور تُستعاد تلك اللحظات المملوءة بالفرح والأمل والطموح وتوثب الشباب،وتتدافع من الذاكرة بحيوية مبهرة الصور الأولى التي أدهشت فيها الفؤاد البيوت الطينية العتيقة الزرقاء المتعانقة بمحبة، والمتسلقة فوق بعضها البعض، والصخور العملاقة المتبدلة اللون مع تبدل مكان الشمس في سماء تنافس البيوت في جمال زرقتها وفي دفئها العميق، حتى في أكثر الأيام برودة، وصولاً إلى الصور الأحدث في عيون الذاكرة حين اصطحبنا الموسيقي البارع حسام الدين بريمو برفقة جوقات (لونا) لتقدم قبل نحو سنة ونصف حفلاً للتاريخ، صدحت فيه الأصوات والنغمات الجميلة محتفلة بعودة البلدة الوادعة إلى أهلها الطيبين، بعد تحريرها من كابوس الإرهاب الظلامي الذي عاث إجراماً في هويتها السورية الفريدة الساحرة.
في هذه اللحظة تهيمن ذاكرة قسوة تلك الأيام السوداء على جمال ذكريات الماضي مستحضرة بأسى حكايات الجرائم التي ارتكبها الظلاميون بحق البلدة الوادعة وأبنائها الطيبين، وصورة ذلك القاتل المجرم الممسوح العقل الذي ترك أهله يتعرضون كل لحظة للإذلال وانتهاك الحقوق من الجنود الصهاينة الأجلاف، وجاء متسللاً إلى (معلولا) ليفجر نفسه وسيارته المكدسة بالموت بجنود شباب حضروا من كل سورية للدفاع عن بلدة سورية تملك رمزيتها الخاصة في قلوب كل السوريين، وكيف حلت بعد ذلك، صور الأيقونات المنسوخة في دير (مار سركيس) محل الأيقونات التاريخية الأصيلة التي لا يعرف أحد بأي بلاد حلت، مثلها مثل باقي كنوز الدير العتيق، وأمام الأذى الذي لحق بالأماكن المقدسة والبيوت القديمة، وقلوب الناس المحبة، لن يشغل البال الخراب الذي أصاب فندق المدينة السياحي، فهو بكل الأحوال حديث العهد، لا يملك ذاكرة غنية كأديرة البلدة وبيوتها..وناسها.
غير أن الأمل يضيء من جديد مع استعادة صورة راعي دير(مار سركيس)الأمين على تقاليد الضيافة الراسخة في أهل (معلولا) الذي استبقى، بحزم وحنان أبويين، زوار الدير،على مائدة طعامه المصنوع أكثره مما زرعه بنفسه في المصاطب الجبلية المحيطة بالدير، وصورة الدكتور (فادي) بروحه المحبة للحياة، وأحاديثه الشيقة الثرية التي تتغلب على ألم فقدان أبناء عم كانوا ضحايا للإجرام الوحشي، ثم تذكر أنه في ذلك اليوم القريب كنتَ هناك بدعوة من الموسيقي الرائع (حسام الدين بريمو) لحضور حفل لجوقتي (الشام) و(قوس قزح) في ساحة دير القديسة (تقلا)، وكيف شاركتَه خوفه قبل الحفل من ندرة الحضور، ثم قلقه قبيل الحفل من كثرة الأطفال الذين قدموا إلى الساحة، ثم ابتهاجه طوال الحفل بالتفاعل الساحر من جمهور الأطفال والكبار وهم يستمعون إلى أفراد الجوقتين يؤدون بجمال أخاذ بعضاًَ من أجمل ما تحفظه الذاكرة من أغانينا الأصيلة. منها ما كانت بالآرامية، اللغة التي تفخر (معلولا) بأنها لا تزال تحكي بها.
راودني الإحساس بأن الأغاني الآرامية المدهشة التي صدحت بها الأصوات الجميلة في تلك الأمسية الرائعة كانت منطلق مهرجان الأغنية الآرامية الذي استضافته دار الأوبرا الأسبوع الماضي، ومقدمة الأمسيتين الرائعتين التي غنت فيهما جوقات (لونا) الأربع (ألوان، ورد، قوس قزح، شام) مجموعة أغانٍ آرامية من كلمات شاعر معلولا، وحارس اللغة الآرامية، جورج رزق الله (1937-2017)، ففي هذا المهرجان، الجدير باسمه، نجح حسام الدين بريمو، كعادته، في تقديم الجديد المبدع المبتكر، حين اختار، ببراعة، لكلمات شاعر معلولا الراحل ألحاناً شائعة محببة بعضها من التراث وبعضها من إبداع الرحابنة وزكي ناصيف وفيلمون وهبة، وبعضها من ألحان ناظم نعيم، وجورج رزق الله ذاته، وبعضها لحنها حسام، وفيها جميعاّ امتزاج رائع بين اصوات قادمة من عمق التاريخ، وأنغام من عصرنا بانسجام وتناغم مبهجين يدعوان للسؤال: لو أن هؤلاء الذين كتبوا ولحنوا هذه الأغاني الآرامية الممتعة قد عاشوا في زمن زهو الآرامية، هل كانوا قدموا أغانٍ بجمال ما استمعنا إليه الأسبوع الماضي؟
الأرجح أنهم كانوا قد فعلوا فهم أبناء الأرض ذاتها التي أبدعت حضارتها لغة لن نشعر بغرابتها رغم عدم معرفة الكلمات التي صاغت الأشعار والأغاني الممتعة، وحتى لو لم يُكتب ما يقابل كلماتها باللغة العربية، فهي لغة راسخة في ذاكرة المكان على امتداده وتنوعه، ولذا فقد كان خياراً بدلالة عميقة أن تختتم الأمسية بأغنية ترافقها صور أوابد تاريخية من كل الأرض السورية.
فخر (معلولا) بأنها لا تزال تحكي بالآرامية يملك أسبابه العاطفية، مثلما يكتنف أهميته الثقافية والحضارية، وبعض مظاهر الفخر أعلام ورقية صغيرة ملونة قدمها لحضور حفل معلولا أطفال صغار يتعلمون لغتنا التاريخية العريقة، وقد كتب على وجهيها بالعربية والآرامية:
(بعد آلاف السنين (معلولا) مازالت تتكلم بالآرامية…. أترى؟)
وبعد سنة ونصف من تلك اللحظة الدافئة تصدح الأصوات السورية الجميلة بالكلمات الآرامية الجميلة لتكرر من جديد(السؤال-الجواب) ذاته.
https://www.facebook.com/saad.alkassem
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 26-3-2019
الرقم: 16940