الأثر الفني بين التشكيل والتطبيق

الملحق الثقافي..د. محمود شاهين :

يُعرّف كتاب (الأثر الفني: بين التطبيق والتشكيل) للدكتور عفيف البهنسي العمل الفني استناداً إلى فلسفته ومراحل تكوينه، واختلاط مفاهيمه وتداخلها، قبل أن يتم تحديد أجناسه والأسرة التي ينتمي إليها، وقد ساق المؤلف شواهد على ما ذهب إليه، من المتاحف والمواقع الأثريّة السوريّة. تناول بعدها الصناعات اليدويّة بوصفها أثراً فنياً، إضافة إلى الفنون التطبيقيّة وعملية تأهيل الصناع الذين استمروا في إنجاز مشغولاتهم، اعتماداً على أيديهم (رغم ظهور الآلة الميكانيكيّة المعتمدة على الطاقة الكهربائيّة) وهو ما يمنحها قيمة فنيّة وماديّة كبيرة.

 

وحدد الكتاب مواقع هذه المشغولات والصناعات في دمشق، مُشيراً إلى أجناسها وأنواعها، اعتماداً على المواد والخامات الداخلة في صناعتها، مثال فن الخزف والفخار المجسم والمسطح. أي المنفذ على هيئة بلاطات ولوحات جداريّة كالقاشاني، أو مجسمات فراغيّة كالمزهريات والأواني. وعند فنون الخشب التي تطول الأسقف المستعارة والجامات والأبواب والنوافذ وقواعد الجدران والمنابر والأثاث المتعدد الاستعمال، والموزاييك، والقيصري، وخرط الخشب، والعجمي، والنواعير، والآلات الموسيقيّة.
بعد الصناعات الخشبية، ينتقل الكتاب للحديث عن الزجاج وفنونه، وهي قديمة وعريقة في سوريّة، منها المجسمة كالدوارق والأواني، والمسطحة كالزجاج المعشق واللوحات الفسيفسائيّة الزجاجيّة، وكانت هذه الصناعات والفنون قد انتقلت مع عمالها من دمشق إلى سمرقند بأمر من تيمورلنك. ثم ينتقل إلى فنون المعادن الموزعة على الأواني والسيوف والحلي، وفنون النسيج كالسجاد والتطريز والحياكة، حيث اشتهرت دمشق بأنواع فريدة منها كالبروكار والأغباني والآلاجا والديما.

 

 

 

في باب آخر، يقف الكتاب عند فنون التصميم الفني والمعماري، فيتناول العمارة الداخلية (الديكور) في دمشق، ويسوق شاهداً على ذلك قصر العظم الشهير في سوق البزوريّة. والبيت الشامي عموماً، يتألف من ثلاثة أقسام هي: قسم المعيشة، وقسم الاستقبال، وقسم الخدمات، وفي كل قسم من هذه الأقسام تتجلى الصناعة اليدويّة في العمارة الداخليّة المؤلفة من اكسسوارات خشبيّة داخل القاعات والغرف والأواوين، وكسوات حجريّة تغطي الجدران المطلة على الفناء الداخلي، وقد أبدع المعمار في زخرفة وتزيين هذه البيوت التي من عناصرها: المواقد الحجريّة، والسلسبيل، والبرك المائيّة، والمشاكي، ٍوالمقرنصات. ثم يُشير الكتاب إلى فن المارة الداخليّة الحديثة، والرسوم الجداريّة، والفنون الشعبيّة المنزليّة كصناعة الملابس والأزياء وتطريزها، والوشم، وتزيين واجهات العمارات والخيام والأدوات الاستخداميّة، بزخارف ورموز تتعلق بالموروث والاعتقاد والأساطير والتمائم والحرز. وفي فصل آخر، يقف الكتاب عند فنون صناعة الكتاب وتصميمه، وفن الخط العربي الذي يعتبر أكثر الحرف اليدويّة بلاغةً وعبقريّةً. ثم يبحث في الفنون الإيضاحيّة والرسامين الذين اشتغلوا عليها، فيشير إلى المنمنمات التي ظهرت في سوريّة والعراق، ثم في مصر الفاطميّة. وإلى فنون الترقين. بعدها يبحث في مكونات الفن الشعبي ورعايته وخصائصه ومفرداته وأجناسه، كالرسم على الزجاج، ورسم الشخوص وخيال الظل، والرسوم الجداريّة، والرسم الشعبي، والرقش العربي (الأرابيسك) والوشم، والتصوير الإيقوني، والرسم الإيضاحي. وفي الفصل ما قبل الأخير، يتناول الكتاب التشكيل الفني، والتحول من التطبيق إلى التشكيل، ومراحل تكوّن الأثر التشكيلي، والفن الجديد، وبداية انتشار مصطلح (الفن) و(التشكيل) ثم يتناول أجيال المصورين السوريين، بدءاً من الرواد أمثال رضا معين، وفايز العظم، وصبحي شعيب، وعبد الحميد عبد ربه، وسعيد تحسين، وعبد الوهاب أبو السعود وصولاً إلى جيل ما بعد الرواد كمحمود حماد، ونصير شورى، وألفريد بخاش، ومحمود جلال، وجاك وردة. بعده يستعرض فن الحفر والإعلان والكاريكاتير. وفي الباب الأخير، يستعرض فن ما بعد الحداثة، والتوجه نحو المواضيع الشعبيّة، وتوظيف الحرف العربي في اللوحة المعاصرة الذي أدى لولادة ما يعرف اليوم بـ (الحروفيّة).
يُشير الكتاب إلى أن المعارض الفنيّة التشكيليّة في سوريّة قبل العام 1928 كانت نادرة جداً، واقتصرت على مشاركات عدد من التشكيليين أمثال: توفيق طارق، سعيد تحسين، ميشيل كرشة، فائز العظم، جوزفين تاجر، ومحمد علي الخياط، في معارض مخصصة للصنائع القديمة والحديثة. خلال الثلاثينيات قامت بعض المعارض الفرديّة في أماكن مختلفة مثل: فندق أميّة، الجامعة السوريّة، ومدرسة (اللاييك)، ولعل أول معرض جماعي كان العام 1940 في مبنى معهد الحقوق، والثاني كان العام 1943 في مدرسة (اللاييك). العام 1950 أقيم أول معرض جماعي سنوي في متحف دمشق شارك فيه 30 مصوّراً وضم 88 لوحة، شكّل هذا المعرض بداية حقيقيّة لتبلور الحركة الفنيّة السوريّة، أدى إلى الكشف عن مواهب دفينة مغمورة، وكان منطلقاً لتقدير العارضين مادياً ومعنوياً.

 

وهكذا بدأت عملية التحوّل من (الفن التطبيقي) إلى (الفن التشكيلي) الذي كان في البداية عفوياً، ومقتصراً على نوعٍ من التصوير الزخرفي التشبيهي، حيث جنح الفنان التشكيلي السوري إلى الانتقال من الصيغ النباتيّة الزخرفيّة المحوّرة، وهو الرقش بمعناه الاصطلاحي، إلى تصوير الطبيعة الصامتة بشيء من الواقعيّة، انتقل بعدها إلى مشهد مدينة، أو منظر طبيعي خلوي، وذلك بأسلوب بدائي مُبسّط، لا يُقيم وزناً للدقة، أو قواعد المنظور والنسب التشريحيّة، وهذا ما يُسمى اليوم بالفن الساذج الذي يعتمد على مشاعر فطريّة لم تصقلها قواعد الفن وعلومه، ويمارسه هواة كوّنتهم الممارسة.
بعد الانتداب الفرنسي على سوريّة ولبنان، واهتمام الفرنسيين بالفنون المحليّة، ظهرت بوادر الحركة الفنيّة في المدن الداخليّة مثل دمشق وحلب، وكانت بداية اللوحات الزيتيّة في الثلاثينيات، وبداية النحت في الأربعينيات، وفن الحفر المطبوع في الخمسينيات، وفي الستينيات ظهرت فنون الديكور والإعلان.
في الباب الثامن من الكتاب، يقف الدكتور البهنسي عند فن بعد الحداثة، وظهور نزعة تأصيل الفن، من خلال رفض الغريب، ودعم الثقافة الفنيّة، ودراسة التراث، ومفهوم الفن العربي، سعياً لتمثيل الهُويّة العربيّة في العمل الفني الحديث. على أن محاولات الانتماء إلى جماليّة عربيّة في الفن الحديث، ما زالت على زخمها، حائرة بين محاكات فن المنمنمات، وبين الانتماء إلى البيئة الفطريّة في المشاهد الفرديّة والشعبيّة. وأخيراً انتشر تيار عريض يعتمد الحرف العربي والكلمة صيغة أساسيّة في الموضوع الفني، معتمداً على تقاليد الفن العربي الذي قام على عنصري الرقش والخط الجميل، بطرزه وأنواعه المختلفة.

 

 

لقد دفعت حركة التعريب والتأصيل التي ظهرت مؤخراً في البلاد العربيّة، بعض الفنانين التشكيليين إلى استيحاء أسلوبهم الجديد من فن الترقين أو فن المنمنمات. وظهر من الفنانين المعاصرين من استمد أصالته من أحد هذين الفنين، وكان مصيباً بما فعل، خاصةً إذا استطاع أن يخرج من اسار التقليد، ليصل إلى حدود المعاصرة والتجديد. بالمقابل، كانت مظاهر الحياة الشعبيّة، والفنون التقليديّة المحليّة، من معالم الأصالة في الفن، واهتمت أكثر الفنون الشرقيّة بالمواضيع والأساليب الشعبيّة كشكل من أشكال التأصيل في الفن. وازداد اهتمام الفنانين العرب بهذا الاتجاه، ولكن العيب في ذلك هو أن الفنان اهتم بالموضوعات الشعبيّة ولم يهتم بالأسلوب والجماليّة العربيّة التي حددت معالم الفن الشعبي والفن التقليدي.
يُؤكد الدكتور البهنسي أنه ليس من السهل تحديد رواد الفن الحروفي، ولكن لا بد من القول ان الفنان الحديث في الغرب من أمثال (بول كلي) و(هوفر) كان رائد الفنانين العرب إلى جمالية الصيغة الحروفيّة وأهميتها في تقويم الفن التجريدي. وعندما طُرحت قضية التأصيل في الفن، قام عدد من الفنانين العرب باستعمال الكتابة في التصوير، وذلك في محاولة منهم لتعريب الفن الحديث، أو هي محاولة لإنقاذ الفن التجريدي من الصيغ المجانيّة التي لا معنى لها، وتبقى أهمية هذه التجربة في أنها المدخل إلى تعريب الفن. فلقد أصبحت العلامة الأولى لاتجاهات عدد كبير من الفنانين الذين يشعرون بضرورة تعريب فنهم، وهم إذ دخلوا إليه من باب الكلمة، أو الكتابة العربيّة، فهو دخول سهل، ولكنه صادق وصحيح.

التاريخ: الثلاثاء9-4-2019

رقم العدد : 16952

آخر الأخبار
المعتقل صفراوي عالج جراح رفاقه في سجن صيدنايا وأنقذ الكثيرين "حركة بلا بركة" تفقد واقع عمل مديريات "التجارة الداخلية" في اللاذقية خسارة ثالثة على التوالي لميلان تكثيف الرقابة التموينية بطرطوس.. ومعارض بأسعار مخفضة برشلونة يستعيد صدارة الليغا باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب دوبلانتيس يُحطّم رقمه القياس رعاية طبية وعمليات جراحية مجاناً.. "الصحة" تطلق حملة "أم الشهيد" ليست للفقراء فقط.. "البالة" أسعار تناسب الجميع وبسطاتها تفترش أرصفة طرطوس