هو عنوان العرض الراقص الذي شهده أخيراً مسرح سعد الله ونوس في المعهد العالي للفنون المسرحية على مدى أربعة أيام، وهو من تصميم حور ملص، وإخراج ميار الكسان، في ثاني تجربة لهما يتاح لي رؤيتها.
ثنائي حور – ميار قدّم قبل وقت غير بعيد عرضاً جديراً بالاهتمام، والتقدير، في غرفة من شقة سكنية صغيرة، لم يتح له أن ينال حقه من الإضاءة الإعلامية بسبب طبيعة المكان التي سمحت فقط بحضور أقل من عشرة أشخاص في العرض الواحد. ومع ذلك فإن ذلك العدد القليل من الحضور الموزع على بضعة أيام قد امتلك الانطباع ذاته عن العرض، وإن لم يمتلك الرؤية ذاتها، وهو ما تكرر على نطاق أوسع في العرض الأحدث الذي ما كان من الممكن اختيار عنوانٍ له أكثر تعبيراً من (مُعلّق)، فعلى امتداد شريط ضيق مضاء ما بين جنبي خشبة المسرح تجري أحداث العرض، وتتالى في المشي على الشريط الضيق راقصتان أدت إحداهما دور امرأة عجوز، وظهرت الثانية بعمرها الشاب الحقيقي كلتاهما، لأسباب مغايرة، وكأنهما معلقتان بين السماء والأرض، وبتعبير أدق: معلقتان بين فضائين يمكن تفسيرهما برؤى عديدة تتعلق بالزمان والحياة والمعرفة والخبرة وسواها..
ومع ما سبق فإن الفكرة التي حملها العرض، أو التي ربما أراد إيصالها، ليست الأمر الأهم فيه، وإنما الأهم هو العرض ذاته، شأنه في ذلك شأن الكثير من الفنون البصرية والحركية، حيث تكمن الأهمية الفعلية في المستوى الفني، وفي ما يحققه من متعة للمشاهد، وتأثير فيه، وحيث يسمح ذلك المستوى بقراءات تختلف باختلاف ذائقة المتلقي وثقافته وخبرته الحياتية. فالعمل الفني سواء أكان عرضاً حركياً راقصاً، أم عملاً تشكيلياً ثابتاً، هو ليس وسيلة إيضاح وإنما رؤية إبداعية لصانعه بصرف النظر عن شيوع الفكرة وتكرارها، وحتى عن أهميتها ومغزاها، وهذا ما حققه عرض (مُعلَق)، فمن جهة أثار العمل أفكاراً عديدة، وربما متباينة، عن دلالاته ومعانيه، ومن جهة ثانية، أمتع المشاهدين بسب براعة راقصتيه (حور ملص وسارة المنعم) اللتين ظهرتا على مستوى متقدم من الكفاءة، وهو أمر ليس مستغرباً من راقصة بتجربة وخبرة حور ملص، الفنانة العريقة والمدّرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، لكنه مفاجأة سعيدة فيما يخص سارة منعم، وخاصة بالنسبة لمن لم يشاهدها قبل الآن، حيث إنها لا تزال طالبة في المعهد.
ربما تتطلب العروض الراقصة مستوى أعلى من التناغم والتكامل بين صنّاعِها، من ذلك الذي يتطلبه سواها، فمعالجة الفكرة (دراماتوجياً) وموسيقياً وتصميماً حركياً وإخراجاً تتم في الآن ذاته، وهي مرحلة تسبق بأقطابها الأربعة مرحلة العرض، غير أنه في هذا العرض كانت السينوغرافيا أيضاً شريكاً في المعالجة والإعداد بسبب طبيعة العمل التي تطلبت حضورها منذ البداية كجزء (درامي) أصيل لا غنى عنه. إلا أنها، أيضاً، صنعت حالة بصرية فريدة خاصة بهذا العرض حين اختار صانعوه أن يضيئوا الشريط – الطريق الممتد في المنتصف الأفقي للفضاء المسرحي – فبدا ضوء الشريط وكأنه مكمن الضوء الوحيد – ليجذب نظر المشاهد إلى مجال محدد، ومن ثم إلى نقطة بذاتها.
التناغم والتكامل تكرر في تجربة حور – ميار هذه المرة، كما كان عليه في المرة السابقة، بحيث يصعب اكتشاف المساحة الفاصلة بين فن تصميم الرقصات (الكوريوغراف) وبين الإخراج، ربما لأنه لا توجد مساحة عازلة، ورغم أن المخرج ليس راقصاً، وليس بالضرورة أن يكون راقصاً، إلا أنه وثيق الصلة بالخشبة، فميار الكسان خريج قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وهو قبل ذلك ابن عائلة وثيقة الصلة بالإبداع، فوالده الزميل الراحل عمار الكسان الإعلامي الكفء والكاتب الطموح، ووالدته ريم حنا الإعلامية وكاتبة السيناريو المتميزة، وميار إلى ذلك صاحب تجربة جديرة بالتقدير في مجال فن التصوير الضوئي، وأقام معرضاً ناجحاً لصوره في صالة الشعب.
وإذا كانت مسارح المعهد المسرحي تبدو المكان الطبيعي للعرض بحكم أن المصممة مدرّسة فيه والمخرج خريج قسم التمثيل، كما أشرنا، والدراماتورج (إبراهيم جمعة) خريج قسم الدراسات، والراقصة سارة المنعم على وشك التخرج من قسم الرقص، وحتى الجانب التقني كان من عمل طاهر سلوم خريج قسم التقنيات، فإن ذلك لا يحول دون القول: إن عرضاً مثل (مُعلَق) يستحق الكثير من الدعم والاهتمام، وخاصة من دار الأوبرا، فهو ليس أقل أهمية من العروض التي استضافتها.
مع كل التقدير لعروض الرقص الشعبي وأنواع الرقص المختلفة.
إضاءات
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 23-4-2019
رقم العدد : 16962

السابق
التالي