مما لاشك فيه أن الابتكار الأكثر تأثيرا بتاريخ العالم كان الحرف الذي بدأ سجل التدوين التاريخي والتعبير عما يجول في الخاطر بعد نقله من الشفوي إلى التدوين , وهذا يعني أن مرحلة التوثيق قد بدأت منذ أن استطاع الانسان ان يضع الحرف علامة للكتابة , ولا يختلف اثنان من الباحثين والمؤرخين على أن الحرف الاول كان من سورية ومن ممالكها التي امتدت من الداخل إلى الساحل , وتطورت وازدهرت حتى غزت العالم وقدمت له اللون والحرف, والنوتة الموسيقية , والعاصمة الاولى التي ماتزال مأهولة لحد الآن , ومن سورية الحضارة أيضا كانت الزراعة والتدجين, وغير ذلك كثير , في العودة إلى الحرف الأول الذي نتحدث عنه صدرت عشرات الكتب والدراسات التي اماطت اللثام عنه , ومن هذه الكتب المهمة جدا , كتاب صدر منذ اسابيع عن الهيئة العامة للكتاب حمل عنوان : تاريخ لغات المشرق العربي القديم (اللغات السامية) لمؤلفه الدكتور عيد مرعي , وفيه يقف عند محطات مهمة جدا بتاريخ اللغات السامية التي نشأت وتطورت وكانت وراء النضج اللغوي الذي نراه الآن , , يقسم الكتاب إلى مجموعة من الابحاث التي بدورها تقسم اللغات السامية إلى عدة حقول منها : لغات المجموعة الشمالية , لغات المجموعة الشمالية الغربية , المجموعة الجنوبية الغربية .
ولأن من الصعوبة بمكان أن نعرض لكل ما في الكتاب يمكن أن نقف الفصل الثالث الذي جاء تحت عنوان : لغات المجموعة الشمالية الغربية , وهي لغة إبلا , اوغاريت , الفينيقية , اللهجات الفينيقية .
لغة اوغاريت
يقول الباحث : دون سكان اوغاريت بلغتهم الابجدية المسمارية التي ابتكروها آلاف النصوص الاقتصادية والحقوقية والدينية والمعاهدات والرسائل والاساطير التي تتحدث عن معتقداتهم الدينية ونظرتهم الى الكون والحياة واشهر تلك الاساطير أسطورة (دورة بعل ) واسطورة دان إيل وابنه أقهات , واسطورة كيريت , واسطورة مولد الآلهة وغيرها التي تعد قطعا أدبية رائعة عبّر الانسان بوساطتها عن نظرته إلى الكون والحياة والمخلوقات بأسلوب شعري رائع .
اسطورة بعل تتحدث عن بعل إله الخصوبة والمطر والعواصف والبرق الذي كانت عبادته منتشرة في كل انحاء سورية وقد تمتع باهمية عظيمة بسبب عدم وجود انهار كبرى في سورية كما في مصر وبلاد الرافدين يمكن الاعتماد عليها في الزراعة , والاسطورة تتألف من مجموعة من الحكايا المنفردة التي يعتقد أنها جمعت في عمل واحد , موضوعها الرئيس الصراع بين الخصوبة والجدب , بين الحياة والموت , بين الخير والشر , ويتجلى ذلك في الصراع بين بعل ويم إله البحر , والصراع بين بعل وموت إله الجدب والفناء والعالم السفلي (عالم الأموات ).
أما اللغة الاوغاريتية فتوصف بأنها لغة معربة تشبه في قواعدها اللغات العربية والآرامية والفينيقية وغيرها من لغات المشرق العربي القديم يتطابق فيها نظام الجملة الفعلية والاسمية مع نظام الجملة في اللغة العربية , ففي اللغتين تبدأ الجملة بالفعل وترفع الافعال في الاوغاريتية بثبوت النون , ونصبها بحذفها , شبيهة بالافعال الخمسة في اللغة العربية , والاعداد فيها تتطابق مع العربية : أ , ح , د ويمكن تمييز ثلاثة مستويات باللغة الاوغاريتية :
المستوى الادبي الرفيع , يظهر في صياغة الاساطير والنصوص الدينية كأسطورة بعل وأقهات وغيرها.
المستوى الرسمي الذي يظهر في النصوص القانونية والوثائق الرسمية بين ملوك أوغاريت وملوك الحثيين .
المستوى الشعبي الذي يظهر في النصوص التي تتحدث عن الحياة اليومية وتظهر فيه أخطاء لغوية ومفردات غريبة تدل على الاغلب أن مستخدميها لم يكونوا من سكان أوغاريت بل وافدين عليها , ,ابجدية اوغاريت عثر عليها عام 1949مكتوبة بشكل كامل على لوح طيني صغير في ثلاثة سطور من محفوظات القصر الملكي وقد اتخذتها المديرية العامة للاثار والمتاحف شعارا لها , وطبعت على وجه ورقة الخمسين ليرة صدرت عام 2009م .
خلاصة القول : الكتاب إنه سِفرٌ يتحدث في تاريخ اللغات القديمة واللهجات (السامية) وآدابها التي انتشرت في جميع مناطق المشرق العربي منذ الألف الثالث قبل الميلاد حتى القرون الميلادية الأولى كالأكادية والإبلوية والأوغاريتية والفينيقية وكنعانية العهد القديم والآرامية والسريانية ولهجات العرب الشمالية والجنوبية، مع عرض نماذج من نصوصها، ويبين هذا السِفر مدى ارتباط أو تشابه أو تطابق قواعد ومفردات هذه اللغات واللهجات مع اللغة العربية التي تمثل وعاء كبيراً انصهرت فيه جوانب كثيرة من هذه اللغات واللهجات، ومن ثم تصبح دراسة هذه اللغات واللهجات ذات فائدة كبيرة لدراسة تاريخ اللغة العربية وقواعدها وآدابها
يمن سليمان عباس
التاريخ: الأربعاء 5-6-2019
الرقم: 16994