تتدحرج المواجهة الكلامية بين فرنسا وأميركا على وقع الخطابات التصادمية التي يتبادلها الطرفان، وإن كانت أميركية البداية والنهاية، فعندما سكتت فرنسا عن الإهانة المباشرة بعد التوصيف الذي أطلقه الرئيس ترامب على الرئيس ماكرون وجدت نفسها محرجة في هذا السكوت، ولم تستطع هضم ما اعتبرته انتقاصاً من دورها وتعدياً على قرارها السيادي، رغم إدراكها فوات الأوان، ومعرفتها باستحالة أن تصلح ما أفسدته الأطماع..!!
التوتر الحاصل الذي بدأ التصويب فيه يستنسخ النيران الصديقة التي قد تحدث في المعارك العسكرية ويبدو مفهوماً، لكنه في السياسة خارج المألوف، باعتبار أنّ الحدّ الأدنى يتطلب تنسيقاً مسبقاً في المواقف يحول في أغلب الأحيان دون الانزلاق إلى حسابات ومعادلات خارج سياق التفاهمات، وتأخذ موقعها الطبيعي في العمل الدبلوماسي على أنها من مسلمات التحالف خصوصاً حين يكون بنسخة التبعية، التي تعيد ترسيم حدود الاصطفاف وشكله، وحتى المساحات المسموح بها، وتلك التي يحظر التعاطي معها أو الحديث فيها.
ما زاد الطين بلةً.. أن المسألة الخلافية التي أججتها التغريدات الترامبية، كانت تحصل في الماضي، لكنها لم تكن تصل إلى حدود الإهانة المباشرة للرئيس ماكرون، ما يعني بالقرائن والحجج أن النزق الأميركي وصل إلى مكان يصعب عليه أن يسمع غير صوته، وأن يجد موقفاً لا يتطابق معه، وفي الحد الأدنى أن يستأذن قبل أن ينطق لسانه، وهو ما يملي شروطاً قسرية ومفازات عبثية لا بد من معايرتها في سياق فهم العلاقة الأميركية الفرنسية.
الأمر ليس دفاعاً عن فرنسا، وليس وارداً أن يكون كذلك تحت أي مسمّى، بل يحمل في طياته ملفاً اتهامياً للسياسة الفرنسية التي اعتادت أن تكون تابعة للأميركي، حتى في علاقاتها البينية المختلفة، والأهم أنها في العقد الأخير على الأقل أصبحت ظلاً متراخياً وواهياً للأميركي في كل مواقفه، وفي أفضل حالاتها ساعي بريد لحروبه، بينما يحظر عليها أن تكون كذلك سياسياً، باعتبارها تفتقد للأهلية في هذا الدور.
بين المسموح والممنوع.. يبدو أنّ السياسة الفرنسية أضاعت البوصلة، وأضاعت القدرة على التصويب، بينما كانت الإصابات الناتجة عن النيران الأميركية تعيد رسم الكثير من إشارات الاستفهام حول السياسة الفرنسية، ومدى جديتها في تفادي تلك النيران التي تصوب خارج الإحداثيات، وخصوصاً أن الرئيس ترامب وما ارتكبه من حماقات مع حلفائه لم يترك مجالاً للاستدراك.
البحث الفرنسي عن موضع قدم إلى جانب الأميركي وتحت ذراعه يوقعه في المأزق لجهة صعوبة الفصل بين ما يحق له أن يقبله وما لا يجوز له أن يرفضه، واستحالة الفصل بين النزق السياسي والرعونة الدبلوماسية في مسار يبقى معرضاً للتصويب المباشر من النيران الحليفة ومسرحاً لحروبها «الصديقة»، التي يبدو أنها تبقى آنية والجبهات فيها لا تفسد لود التحالفات أمر العمليات، بدليل أن الساسة الفرنسيين الذين بلعوا إهانة رئيسهم مضطرون لبلع ما يليها، وما يلحق بها أكثر بكثير مما سبقها.
بقلم رئيس التحرير علي قاسم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الأحد 11-8-2019
رقم العدد : 17047