العمارة العربيّة بين الاستشراق والعالميّة

الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:

يثير كتاب (العمارة العربيّة بين الاستشراق والعالميّة) للدكتور عفيف البهنسي كل ما يتعلق بشؤون وشجون العمارة العربيّة، بدءاً من هويتها وفوارقها المعماريّة، وعلاقة شكلها المبتكر بوظيفتها وموقعها في التفكير الهندسي الإنساني، مروراً بجغرافيتها العربيّة وتاريخها وعلاقتها بالتراث، ونظام الفناء الداخلي والطبيعة، وصولاً إلى ما يُعرف اليوم بالعمارة الخضراء.

________________________________________________________________________________________________________________________________________________

بشكل عام، يتميز فن العمارة بوصفه جامعاً لجميع الفنون التشكيليّة والتطبيقيّة، كما يتميز بوصفه معبّراً عن الهوية الثقافيّة، وعن الجماليّة الفنيّة لأمة من الأمم، وقد توسع مؤرخو فن العمارة بعرض تفاصيل هذه الفنون بوصفها عناصر معماريّة. ومع أن هذه الفنون الجميلة استقلت في العصور الحديثة عن فن العمارة، إلا أنها ما زالت لاصقة في لحمة العمارة في الفنون القديمة، وبخاصة في الفن الإسلامي، تؤكد على الصفة الفنيّة الشاملة التي يتمتع بها فن العمارة الإسلاميّة، هذا الفن الذي اجتاز عصوراً متلاحقة، حاملاً خصائص الإبداع الفردي، والذي شكّل أحقاباً أطلق عليها خطأً أسماء الأنظمة السياسيّة عبر التاريخ.

العمارة واللغة
يرى الدكتور البهنسي أن العمارة أشبه باللغة، تمثل دلالات، وتقوم بوظائف إنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة. إنها لغة فراغيّة تمثّل الإنسان. وهكذا كان تاريخ العمارة هو تاريخ حضارة الإنسان الذي أنشأ هذه العمارة وطوّرها بحسب حاجاته وطموحاته وذائقته. والحقيقة، إن العمارة تعتمد منذ بداية التاريخ على تلبية حاجات الإنسان، وتتطوّر هذه الحاجات مع تطور الوظائف الحضاريّة، وتطور مفهوم الإبداع من التقليد إلى الابتكار والخلق، ومن الفطريّة إلى الحداثة، ويتمثل هذا التطور في أشكال التراث المعماري عبر التاريخ، لكن سرعة التحوّل الاقتصادي والسكاني والاجتماعي، دفعت إلى تكثيف وتسريع الحركة العمرانيّة، فكانت التصاميم المستوردة الجاهزة هي أقصى ما يستطيع أن يسد به المعمار الناشئ حاجة مجتمعه المُلحة، خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالميّة الثانيّة. وساعد في هذه التبعيّة المعماريّة، تفجّر رغبة المستهلك المكبوتة، بمتابعة الاستمداد من ثقافة الغرب في مجال العمارة الحديثة، لم يفطن لمخاطرها التي أودت به إلى التخلي عن هويته وتقاليده وحاجاته الروحيّة والماديّة.

 

الثورة المعمارية
لقد كان لابتكار المواد الإنشائيّة الجديدة من إسمنت وحديد، ولاختراع أدوات العمارة الضخمة، وظهور الطاقة الكهربائيّة، أثره في ظهور الثورة المعماريّة التي غذتها مبادئ الحداثة في الغرب، وقد تغيرت في بنيتها وفي وظائفها وفي شكلها، مما أبعد إلى حد كبير حضور الإنسان مصمماً وبنّاءً ومستهلكاً عن مجال العمارة الأصليّة، فلقد أصبح الإنسان ضيفاً كسولاً على المستحدثات التي حلت محل فكره وذراعه وذوقه. وعوضاً أن تقوم الآلة والمواد الحديثة على خدمة الإنسان روحاً وجسداً، قامت على خدمة الصناعة كرأسمال وتجارة، وعلى خدمة المدينة بوصفها مجالاً لحركة السيارة ووسائل النقل السريعة والضخمة، ثم بوصفها مقراً للمصانع والتجارة، مما سبب غياب الإنسان كحضور مادي وروحي، وكمقياس جمالي للمدينة الحديثة والعمارة، ما أوصل العمارة الحديثة إلى البناء في الفراغ. فلم يعد من فاصل بين العمارة وعمران المدينة، وبين عالم الإنسان وعالم السيارة. بين فضاء العمارة الإنساني وفضاء المدينة الصناعي الملوّث بغبار نفايات الحداثة.
لذا أصبحت العمارة الحديثة جزءاً من عمران المدينة وخادماً له، وأصبح على الإنسان أن يعيش في فضاء المدينة، وليس في كنف مسكنه، وهكذا فإن المقياس الإنساني غاب نهائياً عن العمارة والعمران، وناب عنه المقياس الرياضي الذي يقوم على التناسب والتناظر والتقابل في فضاء المدينة ومنظورها.

التصميم المعماري
بعدها يبحث الكتاب في أواصر العمارة والعمران، لاسيّما الأواصر القوميّة والدينيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة والبيئيّة والمناخيّة، ويسوق مثالاً على المدن العربيّة العريقة العائدة إلى بداية التاريخ: دمشق وحلب وبغداد والرقة والقاهرة والقيروان والمهديّة ومراكش وفاس، وهذه المدن لازالت قائمة حتى الآن. ثم يبحث في خصائص التصميم المعماري العربي، فيشير إلى هوية العمارة العربيّة من خلال العودة إلى جذورها ومزجها بمعطيات العصر وملامحه، ويسوق أمثلة عليها بناء البريد في الجزائر، وضريح محمد الخامس في الرباط، والمعهد الإسلامي في باريس، وبناء مصلحة المياه في دمشق، وبناء البلدية في صفاقس.

عمارة الحداثة
في الفصل العاشر، يتناول الكتاب مدارات العمارة بعد الحداثة، والعمارة العضويّة المتمثلة فيما عرضه المعماري فرانك لويد رايت في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، وهي عمارة ترفض الذوق الجمالي، أو الذوق السطحي البسيط الذي يتعارض مع الطبيعة البشريّة. ثم يُشير إلى عمارة التفكيك التي اختص فيها تشارلز جينكز، وهي عمارة التكسير واللاتماثل واللااتساق ومليئة بالمفاجآت. ينتقل بعدها إلى روائز ثقافة العمارة، فيتحدث حول الوعي والنهضة المعماريّة، وعملية تدريس العمارة العربيّة: تاريخاً وتراثاً وجماليةً، والتلقائيّة والمعلم المعمار، والاستشراق المعماري العربي، ويسوق مثالاً على ذلك المعمار المصري المعروف حسن فتحي الذي كان يؤمن بالمسؤوليّة الاجتماعيّة للمهندس المعماري وقام بتكريس حياته لهذا المفهوم. كذلك المعمار جعفر طوقان وراسم بدران من القدس، وصالح لمعي مصطفى وعبد الواحد الوكيل من القاهرة، وعبد الرزاق ملص من دمشق، ومحمد مكيّة من العراق. ويؤكد على حقيقة تغريب المعمار العربي الإسلامي، وطغيان العمارة الهجينة وتأثيرها على الهُويّة القوميّة، هذا التأثير الذي تعمل عدة جوائز دوريّة على التخفيف منه لصالح إبراز معالم العمارة الأصيلة ومنها: جائزة منظمة الآغا خان للعمارة، وجائزة منظمة المدن العربيّة، وجائزة اللجنة الدوليّة لحماية التراث الحضاري الإسلامي، وطالب بإقامة مراكز أبحاث لعمارة المستقيل في الوطن العربي.

الكلاسيكية
في الفصل الثاني عشر، يقف الكتاب عند أساليب العمارة الكلاسيكيّة والتقليديّة والعمارة الشاميّة في دمشق، واليمنيّة في صنعاء، والأندلسيّة والمغربيّة، والطرز التي اشتغلت عليها، وصولاً إلى عمران المدينة العربيّة في الماضي والحاضر، واختلاف الشروط الاجتماعيّة، وهُويّة المدينة والتخطيط العمراني. ثم يستعرض المدينة العربيّة وتاريخ العمران، بدءاً من تكوّن المدينة، والمبادئ التي اعتمدتها العمارة والمدينة العربيّة، وتطور عمرانها، وخصائص التراث الذي نهضت عليه، والوحدة في عمارة المدن، والتنوع العمراني.

وظيفة العمارة
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يُثير المؤلف موضوع تنوع الوظائف في عمران المدن، فيشير إلى الوظيفة المدنيّة والعسكريّة والملكيّة، وتحولات المدن الكبرى في التخطيط العمراني كما في العمارة العربيّة التي وصلت إلى نوع من الرخاء اللافت في قرطبة وفاس في عهد المنصور، والقاهرة في العهد الفاطمي والمملوكي. أما في بلاد الشام والساحل الفلسطيني، فقد حدث تطور سياسي هائل بتأثير الصليبيين الذين استولوا على مناطق كثيرة، وبخاصة القدس، حيث أقاموا الحصون والقلاع الضخمة التي آوتهم، وهو ما حوّل مباني بلاد الشام (سوريّة ولبنان والأردن وفلسطين) إلى طابع عسكري، في عهدهم وبعد جلائهم.

التاريخ: الثلاثاء10-9-2019

رقم العدد : 964

آخر الأخبار
6 دول أوروبية تدعو إلى تخفيف العقوبات على سوريا طلبة جامعيون لـ "الثورة": أجور النقل بين العاصمة والريف مرهقة لنا القائد الشرع يلتقي وفد المفوضية السامية للأمم المتحدة أكثر من ٣,٥ ملايين طالب وطالبة يتقدمون للامتحان الفصلي الأول خدمات صحية متنوعة يقدمها مستشفى الحراك الوطني بدرعا ورشة تدريبية بدرعا للتعرف على ذوي صعوبات التعلم وتشخيصهم انخفاض كبير بأسعار المواد الغذائية في طرطوس تحسن ملحوظ بصناعة رغيف الخبز في درعا تخفيف العقوبات على سوريا على طاولة "الأوروبي" سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق