ثورة أون لاين-محمود ديبو:
تشكل السياحة الثقافية في سورية أحد أهم المنتجات السياحية المزدهرة لارتباطها بالمخزون الغني والمتنوع من عناصر الجذب السياحي والأثري والتاريخي، وتعد مدينة دمشق القديمة الوجهة الرئيسية الأبرز لما تحتويه من مبانٍ تاريخية وأثرية مهمة وأوجه متميزة من التراث الثقافي اللامادي كالحرف والصناعات التقليدية وأسواق المهن اليدوية وطرز العمارة التقليدية والعادات والتقاليد والفنون بمختلف أشكالها.
ففي دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ تبدو الصورة أوضح لما لها من أهمية مكانية وزمانية وما شهدته من أحداث تاريخية مهمة لاتزال آثارها باقية حتى اليوم، وهذا الأمر استدعى الاهتمام بهذا التراث وتوظيفه سياحياً لتحقيق أكبر جذب وإغناء البرامج السياحية التي كانت المكاتب السياحية تبيعها للشركات الخارجية لاستقدام الزوار من دول أجنبية وعربية.
وتقول المهندسة ربا صاصيلا من مديرية التخطيط في وزارة السياحة إن الدول المتقدمة تضع السياحة المستدامة من ضمن أولوياتها وفي خططها السنوية الخاصة بالتنمية لما لها من تأثيرات مباشرة على جميع قطاعات الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية وهي تسهم في ديمومة مواقع التراث العمراني غير القابلة للتكرار وحمايتها، وإبراز ملامح الأصالة والإبداع في المباني التراثية، وتوجيه سلوكيات المجتمع المحلي وإدراك أفراده لأهمية هذه المواقع، وزيادة الوعي بأهمية المنتج السياحي وتسويقه وأساليب إظهاره، وتحفيز المجتمع المحلي وإشراكهم في عملية الصيانة والحفاظ والتأهيل والاستثمار.
مفهوم التنمية السياحية
كما أن مفهوم التنمية السياحية لمدينة دمشق يتكامل مع التسويق والترويج لها ضمن مفهوم الإدارة السياحية المتكاملة، وبما يصبّ في إطار الحفاظ عليها وضمان سلامتها وبقائها بأناقتها التاريخية للأجيال القادمة.
والتوظيف الأمثل الذي يتلاءم والنسيج العمراني لكل منطقة في المدينة يركز على مفهوم تنمية السياحة الثقافية من خلال إبراز العناصر الأثرية في المدينة القديمة أو الشرائح الأثرية والحفاظ على التقاليد والنسيج العمراني والسكان والتي تشكل بمجموعها مقومات المنتج السياحي الناجح والقادر على جذب السياح بأنواعهم كافة.
فعاليات سياحية تراثية
وقد تزايد تحويل البيوت القديمة إلى فنادق تراثية ومطاعم ومقاهٍ، بعد إعادة ترميمها للحفاظ على صبغتها الأثرية وتأهيلها ضمن نواظم واشتراطات فنية وتقنية دقيقة، تنسجم مع أسس الحفاظ والتأهيل، ما جعلها استثماراً سياحياً جاذباً للمستثمرين الذين استفادوا من اللمسات المعمارية المميزة والمواصفات التي يتمتع بها البيت الشامي من مساحة واسعة وباحة كبيرة وبحرات وغرف كبيرة ومتعددة وعناصر فنية وجمالية وطبيعية.
ويبلغ عدد الفنادق التراثية في دمشق القديمة / 37 / بعدد تقريبي / 702 / سرير فندقي، وعدد المطاعم التراثية / 41 / بعدد تقريبي / 3871 / كرسي إطعام.
وتشير صاصيلا إلى أن هذا الأمر حقق جملة من الإيجابيات منها المساهمة في التعريف بالبيت الدمشقي وخصائصه والمساهمة في إحياء مهن وحرف تقليدية تراثية مرتبطة بالبيت الدمشقي، وخلق فرص عمل جديدة، وزيادة الشعور بالانتماء للأصالة والتراث الدمشقي، والإقبال الشديد من الضيوف والسياح الأجانب للإقامة في البيوت التراثية والتجربة الفريدة المعاشة ضمن محيط الحياة الاجتماعية والأماكن الدينية والأسواق التجارية.
مقصد رئيسي
كما ساهم ذلك في تحويل دمشق القديمة إلى مقصد سياحي رئيسي، ونشر التجربة الإيجابية إلى باقي المدن السورية القديمة، وتعزيز تقاليد الضيافة والترحاب.
وعلى العموم فإن هذه العملية جذبت شرائح جديدة من الزوار وأضافت قيمة مضافة وحركة جديدة إلى المدينة القديمة، فبعض البيوت تحولت إلى متاحف ثقافية مثل مكتب عنبر أو بيت خالد العظم أو خان أسعد باشا، ومنها تحول إلى حمامات عامة تقليدية، ومنها تحول إلى مراكز ثقافية أو صالونات ثقافية وأدبية ذات طابع فكري حيث تلقى فيه القصائد والمحاضرات وتعرض المؤلفات وتقام الندوات والأنشطة والفعاليات الثقافية المتنوعة، أو ورشات فنية كمشاغل ومراسم للفنانين التشكيليين يعملون ويعرضون أعمالهم الفنية من منحوتات ورسومات معاصرة ويقيمون المعارض والأنشطة الدورية.
تشجيع الحرف التقليدية
بالتوازي مع ذلك وبالنظر إلى ما تشتهر به دمشق القديمة من الحرف اليدوية التقليدية الفنية والحرفية والخزفية والنسيجية والزجاجية، فقد جرى العمل على تشجيع وتنمية الصناعات والحرف اليدوية التقليدية وتسويق منتجاتها من خلال فتح أسواق مهن تقليدية وتقديم التسهيلات لتطوير الحرف وتسويقها والترويج لها ووضع معايير وطنية لضمان الجودة في المنتجات الحرفية وديمومة هذه الحرف بدعم الحرفيين وتخصيص أسواق دائمة لتصريف المنتجات وإقامة الورشات التخصصية والترويجية.
وكما تقام المهرجانات والمعارض والندوات السنوية أو التخصصية للترويج لمقومات المنتج السياحي المتنوع الغني في مدينة دمشق القديمة بهدف التعريف بالتراث الوطني المادي واللامادي والحرف التقليدية وتشجيع السياحة الداخلية وجعل دمشق القديمة معرضاً عالمياً للمنتجات الحرفية العالمية.
سلبيات وتحديات
ومن التحديات والإشكاليات في الحفاظ على مدينة دمشق القديمة تأثر الهوية العمرانية لمدينة دمشق بالتوسع العمراني السريع في القرن العشرين بسبب تزايد عدد السكان وهجرة السكان من الريف إلى دمشق وازدياد المتطلبات السكنية، هذا أدى إلى إهمال الحفاظ على الموروث المعماري والوسط التاريخي.
وترتبت على ذلك سلبيات هي أن التوظيف لم يكن في إطار تخطيط مسبق وتنسيق بين الجهات المعنية، وأدى إلى زيادة استهلاك الخدمات والبنى التحتية، والخدمات الإضافية التي يتطلبها التوظيف الجديد أدت إلى زيادة التلوث والضجيج، وخلق مظاهر اجتماعية جديدة.
مخالفات وتجاوزات عمرانية
ومع غياب خطط واستراتيجيات واضحة ناظمة لعمليات الحفاظ والتأهيل، وغياب التنسيق والتعاون بين الجهات المعنية، وعدم التطبيق الصارم للتشريعات والقوانين المحددة لشروط أعمال الصيانة والحماية والترميم، أدى إلى حدوث العديد من المخالفات والتجاوزات العمرانية والتي نجم عنها طمس بعض معالم التراث المعماري الأصيل، وغدت معالجة إشكاليات الحفاظ على المدينة وقيمتها الحضارية والعمرانية من أولويات خطط التنمية السياحية المقترحة في مدينة دمشق.
تأثير التوسع العمراني
كما أن استملاك عدد كبير من عقارات ومبان أثرية وتاريخية في دمشق القديمة لأجل تطويرها واستثماره للنفع العام، أدى إلى عواقب كثيرة أثرت على التراث المعماري والعمراني التاريخي لها، إلى جانب أن جاذبية المدينة القديمة دفع المُلاك والمستثمرين إلى شراء بيوت قديمة وترميمها وتحويلها إلى استثمارات أو ورشات فنية أو مشاغل صناعية أو وظائف أخرى ما تسبب في إفراغ جزء من نسيجها الثقافي والإنساني واختلال التجانس في النسيج الاجتماعي للسكان.
وعن التأثير السلبي للتوسع العمراني على المدينة بينت المهندسة صاصيلا أنه وعلى اعتبار أن المدينة القديمة تعد بمنزلة المركز الرئيسي للمدينة كلها، فقد نتج عن ذلك اختناقات مرورية شديدة وحوادث وتلوث بيئي.
إلى جانب ذلك فقد ساهم غياب التخطيط السياحي التنموي المستدام بنمو فعاليات ووظائف غير مناسبة ووجود مجموعة من الصناعات والحرف الخطرة ضمن حدود الشرائح السكنية، ونقص في الخدمات العامة الاجتماعية، وعجز في تأمين البنى التحتية اللازمة وتحقيق الحلول المرورية المناسبة.
ومن المشكلات التي أثرت أيضاً غياب إجراءات الترميم والصيانة والرقابة من قبل الجهات الرسمية المعنية، وهذا أدى إلى الكثافة السكانية ومشاكل الإرث، وتقسيم البيت إلى أجزاء، وقلة وعي السكان بالقيمة التاريخية لمساكنهم ساهم في إهمال البنية الإنشائية والمعمارية لها وزوال الكثير من العناصر الفنية المهمة التي تميز البيت الدمشقي.
تحقيق التوازن
وأوضحت صاصيلا أنه تم وضع الخطط السياحية الإستراتيجية والحلول والمقترحات الكفيلة بتحقيق التوازن المطلوب بين ضرورة الحفاظ والتنمية المستدامة والتطوير السياحي من جهة، وتلبية احتياجات المجتمع، البشرية والمادية الحالية والمستقبلية من جهة ثانية.
استراتيجيات عامة
ومن استراتيجيات تطوير السياحة في المدينة القديمة البدء بالتركيز على البنى التحتية وتطوير شبكة الطرق والمواصلات وأنظمة معالجة النفايات، والعمل على تنمية المناطق المتدهورة وترميم المناطق العمرانية والأوابد التاريخية والأبنية القديمة ووضع مشاريع تنظيم وإدارة المواقع الأثرية، وتعزيز دور السياحة الثقافية في المدينة القديمة وإبراز تفعيل بعض المحاور وتخديمها بالخدمات السياحية والفعاليات الثقافية والفنية، وتنظيم وتأمين الخدمات الضرورية للسياحة الدينية.
واختيار التوظيفات المناسبة للأبنية التاريخية وخاصة المهملة منها، والتركيز على عدم خلط الوظائف السياحية مع النسيج السكاني ووضع أسس التوظيف الخاص بالوظائف السياحية وتصنيفاتها، والتركيز على الصناعات الحرفية واليدوية والأسواق التقليدية في جذب السياحة، وفتح مناطق للفعاليات السياحية الثقافية وإحداث متاحف اختصاصية متنوعة قادرة على التعريف بمكونات المخزون الحضاري والثقافي وتلبي في آن معاً متطلبات السياحة العصرية وتساعد على تنمية وتطوير الحرف التقليدية وإعادة إحياء المنقوص منها.
توظيف خدمي للمباني
أما الاستراتيجيات الخاصة بمعالجة المناطق والمباني المستملكة فتنطوي على إعادة النظر بالاستملاكات ومعالجة أوضاعها القانونية والفنية، وتوظيف بعض المباني المستملكة لتأمين الخدمات اللازمة لتنمية المدينة وتحقيق النفع العام لها، ضرورة ترميم العقارات المستملكة لأنها لا تؤثر في بنيتها الإنشائية والاجتماعية فحسب إنما تؤثر في المحيط العمراني المحيط بها، وترميم المباني المستملكة للجهات العامة وتوظيفها بالشكل الذي يعزز دورها في تنمية المدينة القديمة من النواحي الثقافية والسياحية مع المحافظة على السكان الأصليين الذين بقوا في منازلهم وتنمية مناطقهم.
معالجة مناطق السكن
وقد تم اقتراح استراتيجيات لمعالجة المناطق السكنية بحيث يتم تصنيف المناطق السكنية في المدينة القديمة وفقاً لأهمية النسيج العمراني والديمغرافي والأهمية الأثرية والتاريخية، وتحديد الأولويات في أعمال الترميم والصيانة وتفعيل دور الرقابة وسن الأنظمة والقوانين الفاعلة والكفيلة بالحفاظ على أصالة وديمومة البيوت التراثية المزمع استثمارها ضمن خطط التنمية السياحية المستدامة المقترحة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمساعدة السكان على ترميم بيوتهم وتحديث أنظمة البناء وتقديم المساعدة الفنية، وتوفير البنية التحتية المناسبة للمناطق السكنية وتوفير الخدمات العامة لها، واتخاذ تدابير السلامة والأمان والحماية.
تنمية مستدامة
ومع ظهور مفهوم التنمية المستدامة ازداد الوعي بأهمية الحفاظ على الإرث والهوية والموارد الطبيعية بالتوازي مع تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أجل دعم عملية التنمية المستدامة تم إشراك المجتمع الأهلي والسكان المحليين في هذا المجال من خلال استثمار سياحي مستدام ودعم وتطوير للحرف والصناعات والنشاطات التقليدية، وكذلك في عملية التنمية الاجتماعية بزيادة وعيهم بأهمية التراث المعماري والعمراني كأحد مكونات الإرث الثقافي ومنطلق لإبداع للمجتمعات المعاصرة والأجيال القادمة، وإقامة دورات تأهيلية وتدريبية، ووظائف مميزة، ودعم المنتجات الحرفية والنشاطات التقليدية، وتشجيع وتسويق الطبخ المحلي، وتأمين الاستضافة لدى السكان المحليين.