صور وحكايات وأبطال ..مازالت راسخة في ذاكرتي ،عند زيارتي لإحدى دور رعاية المسنين ،وكانت فرصة ثمينة للقاء من سلبتهم ظروف الحياة القاسية خيار العيش في حضن الأبناء ،طوعاً أو كرهاً،اقتلعوا وابعدوا عن البيت الذي عاشوا فيه الحلوة والمرة ،ولو وجدوا الاحترام والتقدير اللازمين في بيئتهم الاجتماعية ومع أسرهم لما اختاروا دار رعاية بديلاً عن الحضن الدافئ وعن أحفاد أغلى من الولد على أمل أن تعوضهم الدار حرمان الحنان والحب وربما تساعدهم في ترميم جسور التواصل مع أسرهم.
مسن اليوم ليس كالأمس
تحولات اقتصادية واجتماعية لفظت أعداداً كبيرة من المسنين من دائرة رحيمة فيها عبق الماضي ومعاني التكافل والتراحم إلى عالم مادي يفتقر الدفء والحب وعمقت الحرب ضائقتهم واتسعت دائرة الفراغ والعزلة الاجتماعية لغياب مكانتهم الأسرية ورفض سلطتهم الأدبية تحت عنوان لكل جيل زمنه وقيمه ،وحسن التدبير مهارة وشطارة ولا يحتاج إلى كبير.
هناك في دار للمسنين قصص كثيرة تروي الحكمة والخبرة وعيون تبوح بما تخفيه القلوب من حسرة وتوجع على ذكريات المكان والزمان ولغة تصر على الحياة وتربطهم بها أسباب قوية مع أقران يجمعهم ألم الوحدة ،يعيشون بهدوء في هذا المكان بعيداً عن صخب الحياة ،وتبادل للهموم والخوض في أحاديث الساعة سياسية واقتصادية واجتماعية وآراء وتعليقات ونصائح،فالمسن اليوم ليس كالأمس في ظل الانفتاح الفضائي والتطور التكنولوجي ما ينفي وجود علاقة تلازمية تفيد بان كل شخص في سن الشيخوخة لابد أن يكون بالضرورة مريضاً أو معوقاً، الأمر الذي ينفي أيضاً التصاق فكرة اعتبار دور رعاية المسنين مأوى العجزة فالهرم يتباطأ أمام النفوس ذات العزائم القوية وسن الشيخوخة يمكن أن يكون من اسعد مراحل العمر وأكثرها عطاء وتذوقاً لمعنى الحياة.
نبش الماضي ونزيف الحزن
السيدة (م ،ق )رغم محاولاتها تجاهل وجودي المهني في الدار اقتربت منها بود واحترام وببعض التعليقات عن مرحلة الشباب وذكرياته وما يعترضنا اليوم نحن الآباء من صعوبات في التربية، استطعت كسر حاجز الجليد مع تلك المسنة ولمحت لها بالرغبة في سماع بعض من هذه الذكريات للتعلم من خبرتها وتجربتها ،وفشلت كل محاولات التمنع والتعطل بحجج أنها تعبانة أمام إصراري معرفة سبب وجودها في الدار وبغصة وحرقة قالت باقتضاب..لماذا تريدين أن تفتحي جروح الأمل ونزيف الحزن؟ أنا من اخترت العيش بهذه الدار بعد أن تهجرت مع أبنائي أكثر من مرة في هذه الحرب اللعينة وأخيراً قررت العيش مع ابنتي الوحيدة وزوجها في بيتها الذي ضاق علينا فقررت الذهاب إلى دار للمسنين لتخفيف الأعباء المادية والجسدية عن ابنتي.
وباءت كل محاولاتي لتلك السيدة بالفشل لتغيير أقوالها والاعتراف بالحقيقة المرة لوجودها في هذه الدار كما علمت من بعض الاختصاصيين ..فأولادها الذكور هم من تأففوا من وجودها ودفعوا بها لاختيار الدار مكاناً للعيش ،لقد بقيت صامدة ولم تفشِ دموعها سر قهرها ومعاناتها من عقوق أبناء بل على العكس لامت نفسها على ارتكاب أخطاء في الماضي والتقليل من شأن نفسها وتضخيم سلبياتها وتكتمت على سوء معاملة أبنائها بما فيهم ابنتها.
سيدة أخرى استبعدت نفسها عن المشاركة في حديثي مع المسنين عن الأبناء والأحفاد وأيام زمان وحكم وأمثال ونصائح ،خجلاً لضعف سمعها كي لا تضطرنا إلى مخاطبتها بصوت مرتفع ،ولكن بصبر وإصرار على سماع ما تقوله وكلنا آذان صاغية ودون ملل أو تذمر من تكرار مفرداتها نجحت في معرفة سبب وجودها في هذه الدار فهي كما تقول مقطوعة من شجرة ،لم يرزقها سبحانه وتعالى بزينة الحياة الدنيا، وغياب شريك الحياة والعمر ساقها إلى هذه الدار لأنها لم تجد في محيطها الاجتماعي من يرعاها ويهتم بها كما كان يفعل الزوج وهي لا تملك أي قرش أبيض لهذه الأيام.
الدولة شريك في الرعاية ..وخدمة الأسرة هي الأساس
تتشابه القصص بآلامها وأوجاعها..واحتياجاتها الصحية والاجتماعية والنفسية والترويحية في الدار ولاسيما الحكومية،والتي قد يصعب تلبيتها بالكم والنوع إذا لم تتضافر الجهود المحلية والدولية في مكافحة الآثار الناجمة عن شيوخة العالم وأهم الخطوات في مجال مكافحة التداعيات السلبية لشيوخة العالم تكمن في توفير قاعدة بيانات واسعة حول أوضاع المسنين سواء في المجتمع أو المؤسسات الرعائية المختلفة الحكومية والخاصة والأهلية.
من هنا كانت أهمية الدراسة التي قامت بها الهيئة السورية لشؤون الأسرة (2010) وأكدت من خلال البحث أن دور الرعاية أمكنة تؤمن خدمات السكن والإقامة والطعام والنظافة للمقيمين بها إضافة إلى تقديم خدمات صحية مقبولة بناء على رأي أغلبية المبحوثين، (6908%)أعربوا عن رضاهم التام عن خدمات الدار و(2308%)عن رضاهم إلى حد ما و(604%)فقط عن عدم رضاهم….أما بخصوص السلبيات والمعوقات التي تعترض عمل دور الرعاية فهي بالدرجة الأولى نقص عدد العاملين وتحديداً المختصين وعدم كفاءة بعض الموظفين للتعامل مع هذه الشريحة العمرية وعدم كفاية الأجور.
الأولاد ضمانة لازمة..وليست كافية
وتؤكد الدراسة أن الأبناء كانوا إلى وقت قريب ضمانة كافية لاحتضان الآباء ورعايتهم واليوم ليسوا أكثر من ضمانة لازمة وغير كافية وحوالي (3705%)من المسنين المبحوثين لديهم أولاد ومع ذلك يقيمون بالدار ولم يلحظ فرق يذكر بهذا الخصوص بين أن يكون الأبناء ذكوراً أو إناثاً ونسبة تزيد عن 94%تفتقد لبيت الزوجية وهنا يتضح مدى أهمية وجود الرابطة الزوجية واستمرار العلاقة بين الشريكين في مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها وخاصة بالنسبة للنساء ،وأشار بعض المبحوثين وبنسب متفاوتة إلى أن سبب التحاقهم بدور رعاية المسنين يعود إلى انشغال أولادهم الدائم عنهم أو سفرهم خارج البلاد أو عدم توافر مكان لهم داخل منزل أولادهم أو تذمرهم من رعايتهم ،من هنا برز توجه إنساني يعزز بقاء كبار السن في أسرهم لأهمية رعاية أفراد الأسرة مع الحاجة إلى سياسة دعم الأسر التي ترعى كبار السن أي أن تكون إقامة المسن أهلية وبالمساعدة الحكومية وليس الإقامة حكومية والمساعدة أهلية.
ما يثلج الصدور ما خرج به البحث من حقيقة أن أغلبية الأسر السورية مازالت تقوم إلى حد كبير نسبياً بواجباتها تجاه المسن وتشعر بالحرج الشديد إن هي قررت إلحاقه بدار للمسنين ،ولكن واقع المسنين بات اليوم أكثر من إلزام أخلاقي وديني…بات علماً ودراسة وبحاجة إلى الكثير من التعاون بين مختلف الجهات للوفاء بمتطلبات الرعاية لكبار السن.
التاريخ: الخميس 21-11-2019
الرقم: 17128