الملحق الثقافي-د. ثائر زين الدين:
ما كنتُ أفكِّر حينما كانت جدتي أم سليم تروي لنا حكاياتها المذهلة قبل أن نغطَّ في نومٍ عميقٍ جميلٍ، لا تعكِّرهُ أصوات القذائف وأزيز الرصاص، ما كنت أفكِّر بمصدر تلك الحكايات، بل ما كان يعنيني ذلك، كنتُ أعدو مع الشاطر حسن في مغامراته العجيبة، وأخشى عليهِ كثيراً حينَ تتأزَّمُ الأمور ويوشكُ أن يُقتل أو يؤسر، ولكنني اليوم أتساءَل بدهشةٍ شديدة: من أين جاءت تلكَ العجوز السبعينيّة المهيبة بحكاياتها المتنوّعة؛ وهي المرأة الأميّة التي لا تقرأ ولا تكتب.
صحيحٌ أن الحكاية تراثٌ شفوي ينتقلُ عبر الأجيالِ من لسانٍ إلى لسان، لكن كثيراً من حكاياتِ جدّتي أم سليم عثرتُ عليها عندما كبرت وأحببتُ القراءة: في ألف ليلة وليلة وفي سير الأنبياء، بل لقد وجدتُ حكايةً طالما أرعبتني ومنعتني من النوم طويلاً في الأوديسة، نعم وقد أذهلني ذلك؛ إنها قصّة أوذيس وبحارته الذين يحتجزهم العملاقُ ذو العين الواحدة في مغارتهِ بين أغنامه التي يتغذّى عليها، ويلتهم بعضَهم بعد أن يُعدَّ موقده ويشويهم فيه… حتى يتمكن أوذيس وأولئكَ البحارة أخيراً من الهروب بطريقةٍ ذكيّة، وقد غرسوا وتداً ضخماً في عين العملاق الشرير، وخرجوا مع الأغنام مُلتفين بصوفها…
المهم أن هذهِ الحكاية التي كتبها هوميروس قبل ما لا يقل عن 2800 سنة وصلتني أنا الطفلُ العربي السوري دون أيِّ تغيراتٍ تُذكر في مدينةٍ صغيرةٍ في الجنوبِ السوري، ألّا يجعلنا مثل هذا الأمر نُلقي التعصُّبَ الفكري والثقافي جانباً ونُفكِّرُ جدِّيّاً بوحدةِ منابعِ التراث البشري؟! وحدِّث ولا حرج عن وجودِ عشراتِ الحكاياتِ الشعبيّةِ نفسها بأثوابٍ مُختلفةٍ في هذهِ المنطقةِ السوريّة أو تلك، وفي هذهِ المدينةِ العربيّة أو تلك.
ومع ذلك يبقى من المشروع أن يسأل سائلٌ غايتُهُ البحثُ العلمي الدقيق: «ما منشأ هذه الحكايات الشعبية؟ ومن مبدعها الأول؟ وهل وضع مبدعها الأول نصب عينيه هدفاً ما، أراد أن يقوله للمتلقي؟ والأجوبة عن هذه الأسئلة ليست يقينية، ولا حاسمة؛ فربما كانت الأسطورة منشأ كثيرٍ من الحكايات، ولا سيَّما الحكايات الخرافية التي يراها بعضهم «أنها حطام الأساطير أو بقاياها، أو أشلاؤها المتأخرة». ويرى بعضهم الآخر أنها «بكل تأكيد بقايا المعتقدات الشعبية، كما أنها بقايا تأملات الشعب الحسية وبقايا قواه وخبراته».
ولو عدنا إلى مرجعيات الحكاية الشعبية لوجدنا أن الأساطير إحدى هذه المرجعيات المهمّة، إضافة إلى المرجعية الدينية عندما تتكئ الحكاية على حبكات من القصص الديني مثل قصة يوسف بحبكاتها المتعددة: حبكة الغيرة، حبكة البئر، حبكة الإغواء، حبكة الشفاء. أو قصة موسى بحبكتيها: حبكة النبوءة والولد الموعود، وحبكة الصندوق. أو قصة موسى والخضر، أو قصة مريم، وغير ذلك من القصص الديني.
وثمة مرجعية مهمة من مرجعيات الحكاية الشعبية تتجلّى في التراث الحكائي العربي؛ ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وتعدُّ ألف ليلة وليلة هي الرافد الأساسي لكثيرٍ من الحكايات الشعبية.
وبالإضافة إلى كل ما تقدم فقد اتكأت حبكات الحكايات الشعبية على كثيرٍ من حبكات القصص العربية التي تناقلتها أمّهات كتب الأدب العربية مثل حبكة تبديل الرسالة «صحيفة المتلمس»، وحبكة العلامة التي يعرف بها الفارس الملثم في المعركة «أبو محجن الثقفي وسعد بن أبي وقاص»، وحبكة الأفعى والدنانير حكاية مثل: «كيف أعاودك، وهذا أثر فأسك». وغير ذلك.
التاريخ: الثلاثاء 31-12-2019
رقم العدد: 980