الملحق الثقافي:إعداد: رشا سلوم:
تمر هذه الأيام ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا الروائي والناقد والمترجم، كما تمر مناسبات أخرى كثيرة لكتاب ومبدعين عرب لا يأبه أحد لهم. في عام 1994 م رحل تاركاً وراءه إرثاً هائلاً في الترجمة والرواية وحتى الفن التشكيلي. صحيح أن الكثير كتب عنه ولكن مازال يستحق الأكثر. في ذكرى رحيله كانت لنا هذه الجولة فيما كتب عنه.
هشام البستاني كتب في موقع الآداب قائلاً: قال لي أحد النقاد ونحن جالسان على شرفة المقهى، إنّ جبرا في رواياته الكثيرة كان يحاول كتابةَ روايةٍ واحدة، وإنّ كلّ التنويعات هي مساراتٌ مختلفةٌ نحو هذه الرواية أو تناسخاتٌ مختلفةٌ عنها.
لعلّ ما كان جبرا يبغيه ليس روايةً يا صديقي فيصل. لعّله نوعٌ من السيرة المعكوسة: محاولته ـــ التي لا طائل من ورائها ـــ للعودة إلى طفولةٍ صارت ماضياً، ومع مرور الأيام تحوّل الماضي إلى مُتخيّلٍ محمّلٍ بما يأمل المستقبلُ أن يُحقّقه. هذه الرواية الواحدة هي الذاكرة/ الذكرى إذ يحوّلها العقلُ، الشاهدُ على الفاجعة المتجدّدة، إلى ما يشبه الحلمَ القادم. «أمام جبرا يقع خلفَه دائماً، في طفولته التلحميّة تحديداً. أمّا مستقبلُه فحاضرٌ في سراديب القدس الرّطبةِ الضيّقة، وفي بيوتها المنخفضةِ عن سطح الشارع المكتظٍّ بساكنيه وضوضائهم. كانت انتقالاتُ جبرا، مع تقدّم الزمن، تتمَ من البراءة إلى الدنس، من الفردوس إلى جحيم «الآن» و»القادم،» عبر الهبوط إلى المدينة.
الماضي جميل دائماً بشكلٍ ما. ذكرياتُه المُرّة حلوةٌ هي أيضاً لأنها انقضتْ؛ لذا فالماضي يستدعي حنيناً كامناً فيه بالقوة. يتحدّث إيتالو كالفينو، في المدن اللامرئيّة، على لسان ماركو بولو، عن مدينة ماوريليا، التي يُدعى المسافرُ إلى زيارتها، ويُدعى – في الوقت ذاته – إلى تفحّص بطاقاتٍ بريديّةٍ توضّح كيف كانت قديماً؛ فيعترفُ بأنّ عظمةَ حاضرة ماوريليا، مقارنةً بماوريليا الريفيّة القديمة، «لا يمكن أن تُعوِّضَ من بهاءٍ مفقودٍ لا يمكن إدراكُه الآن إلا في البطاقات البريديّة القديمة»؛ أمّا في السابق، عندما كانت ماوريليا الريفيّة أمام عين المشاهد مباشرةً، «فإنّه لم يكن ليجدَ فيها أيَّ شيءٍ بهيٍّ على الإطلاق.» والنتيجةُ أنّ البطاقات البريديّة لا تصوّر ماوريليا كما كانت، بل تصوّر «مدينةً أخرى، كان اسمُها ـــ للمصادفة ـــ ماوريليا، مثلَ هذه».
ماوريليا جبرا، إذا جاز التعبير، كانت دائماً بيتَ لحم طفولتِه، يبحث عن خلاصه في بطاقاتها البريديّة القديمة، ويتوارى بطلُه (هو) فيها، من دون أن تُفلِح محاولاتُ الكشف عن أسرار غيابه، وسيعودُ يوماً وتعودُ معه بغدادُ والقدسُ، مطهّرتيْن من الاحتلال والقمع والتخلّف، تتزيّنان بالموسيقى ومعارضِ الفنّ وعروضِ الأفلام وقراءاتِ القصة والشعرِ والجدالاتِ الفلسفيّة المحتدمة (في المقاهي) والنساءِ الجميلات المثقفات. لكنّ بطاقات جبرا البريديّة القديمة – ويا لألاعيب الزمن الكموميّ – لا تُصوّر بيتَ لحم/ القدسَ/ بغدادَ كما كانت، بل تُصوّر مُدناً أخرى، كان اسمُها – للمصادفة – بيتَ لحم/ القدسَ/ بغدادَ، مثلَ هذه!
محطات في حياته
جبرا إبراهيم جبرا (ولد في 1920، توفي في 1994) هو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي، فلسطيني الأصل، ولد في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني، استقر في العراق بعد حرب 1948. أنتج نحو 70 من الروايات والكتب المؤلفة والمواد المترجمة، وقد ترجم عمله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة. وكلمة جبرا آرامية الأصل تعني القوة والشدة.
درس في القدس وإنجلترا وأمريكا، ثم انتقل إلى العمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزي، وهناك تعرف عن قرب على النخبة المثقفة وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية مثل السياب والبياتي. يعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجاً وتنوعاً، إذ عالج الرواية والشعر والنقد وخاصة الترجمة كما عمل كإداري في مؤسسات النشر. عرف في بعض الأوساط الفلسطينية بكنية «أبي سدير» التي استغلها في الكثير من مقالاته سواء بالإنجليزية أو بالعربية. توفي جبرا إبراهيم جبرا سنة 1994 ودفن في بغداد.
المترجم
قدم جبرا إبراهيم جبرا للقارئ العربي أبرز الكتاب الغربيين وعرف بالمدارس والمذاهب الأدبية الحديثة، ولعل ترجماته لشكسبير من أهم الترجمات العربية للكاتب البريطاني الخالد، وكذلك ترجماته لعيون الأدب الغربي، مثل نقله لرواية «الصخب والعنف» التي نال عنها الكاتب الأميركي وليم فوكنر جائزة نوبل للآداب. ولا يقل أهمية عن ترجمة هذه الرواية ذلك التقديم الهام لها، ولولا هذا التقديم لوجد قراء العربية صعوبة كبيرة في فهم أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية، التي تقدم صورة قوية الإيحاء للتعبير عن عمق ولوجه مأساة شعبه، وإن على طريقته التي لا ترى مثلباً ولا نقيصة في تقديم رؤية تنطلق من حدقتي مثقف، مرهف وواع وقادر على فهم روح شعبه بحق. لكنه في الوقت ذاته قادر على فهم العالم المحيط به، وفهم كيفيات نظره إلى الحياة والتطورات.
إبداعه
في الشعر لم يكتب الكثير، ولكن مع ظهور حركة الشعر النثري في العالم العربي خاض تجربته بنفس حماس الشعراء الشبان.
أما في الرواية فقد تميز مشروعه الروائي بالبحث عن أسلوب كتابة حداثي يتجاوز أجيال الكتابة الروائية السابقة مع نكهة عربية. عالج بالخصوص الشخصية الفلسطينية في الشتات. ومن أهم أعماله الروائية «السفينة» و»البحث عن وليد مسعود» و»عالم بلا خرائط» بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف.
في النقد يعتبر جبرا إبراهيم جبرا من أكثر النقاد حضوراً ومتابعة في الساحة الثقافية العربية، ولم يكن نقده مقتصراً على الأدب فقط بل كتب عن السينما والفنون التشكيلية علماً أنه مارس الرسم كهواية.
في الترجمة، ما زال جبرا إبراهيم جبرا إلى اليوم أفضل من ترجم لشكسبير، إذ حافظ على جمالية النص الأصلية مع الخضوع لنواميس الكتابة في اللغة العربية، كما ترجم الكثير من الكتب الغربية المهتمة بالتاريخ الشرقي مثل «الرمز الأسطورة» و»ما قبل الفلسفة».
مؤلفاته
في الرواية: صراخ في ليل طويل – 1955، صيادون في شارع ضيق – بالإنجليزية 1960، السفينة – 1970، البحث عن وليد مسعود – 1978، عالم بلا خرائط – 1982 بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف، الغرف الأخرى – 1986، يوميات سراب عفان، شارع الأميرات، عرق وبدايات من حرف الياء – مجموعة قصصية، البئر الأولى – سيرة ذاتية.
ترجماته
هاملت – ماكبث – الملك لير – عطيل – العاصفة – السونيتات لشكسبير. برج بابل – أندريه مارلو. الأمير السعيد – أوسكار وايلد. في انتظار غودو – صامويل بيكيت. الصخب والعنف – وليام فوكنر. ما قبل الفلسفة – هنري فرانكفورت.
التاريخ: الثلاثاء7-1-2020
رقم العدد : 981