ثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
«خذوا هذه الأمّة التي يُقال أنها عظيمة.. أليستْ صورة للفوضى والجنون؟.. المدن والولايات في طريق الإفلاس، وملايين الناس يعيشون بنصف غذاء، والتمييز العنصري يستفحل، والجرائم في ازدياد.. مع ذلك، نعاند مدّعين أنْ لا حياة أفضل من حياتنا، ونتباهى بديمقراطيتنا.
يا له من غباء!.. يا له من سخف!.. يا لها من غطرسة!.. بأيّة عين يجب أن ننظر إلى رجل الدولة الذي يعطي أمراً بضغط الزرّ، وإطلاق القنبلة دون أيّ اعتبار للعجزة أو الشباب، أو حتى المرضى والمعتوهين، أو للحيوانات والنباتات والكواكب نفسها.. أهذا منقذٌ بطل أم مجنون أبله»؟!..
إنه رأي الأديب والرسام الأميركي “هنري ميلر” بموطنه، وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره.. رأيه بأميركا القهر والاضطهاد والذل الذي مارسته بحقه وسائل إعلامها، والتي عاش فيها حانقاً ومشمئزاً ومتمرداً، إلى أن اضطرَّ لمغادرتها واتهامها.
«أميركا عاجزة عن أن تقدِّم للعالم أي شيءٍ إنساني.. على العالم أن يصنع حياته بعيداً عن عقليتها، كما يصنع الإنسان أحلامه الخاصة».
هكذا وصف “ميلر” موطنه الأميركي الذي كان يشعر بأن جميع فصوله، عبارة عن “ربيع أسود”.. روايته بل صرخته التي واجه بها بشاعة الحياة التي يعيشها وكانت السبب في جعله يغضب ويتمرد.. يتمرّد على واقعه الذي تمزّقت فيه طفولته مثلما أحلامه وأفكاره، لا أرض لا ماضي لا مستقبل، ولا حرية تعبير.. لا شيء إلا عفونة لاحقته بالعقوبات التي لم تمنعه من الإبداع والتفكير.
نعم التفكير، وهو ما استعان به للخلاصِ من هذا “الكابوس المخيف”. أميركا التي حمّل رواياته من النقمة عليها، ما تفاقمَ حتى بعد رحيله عنها، تاركاً كلماته فيها:
«لقد استوفيت عقوبتي هناك، والآن لم تعد لديَّ احتياجات. أنا رجلٌ بلا ماضٍ ولا مستقبل.. رجلٌ يرى أميركا تنشر الدمار.. أراها لعنة سوداء على العالم».
إنها اللعنة التي طاردت غربته وعزلته، ولأكثر من عشرين عاماً كان لا بدّ من أن يعود بعدها، ليتمكن ببراعته وحكمته، من نشرِ ما علمته إياه صور الغربة وحكايا القهر والمعاناة، مثلما الأشكال المختلفة لأبناء الحياة. عاد مسكوناً بفكرتين حملهما قبل مغادرته، وبقيا إلى حين عودته.. سخريته من بلده، ويأسه وانتقاده وغضبه..
هاتين الفكرتين هيمنتا على أعماله.. جميع الأعمال التي ضمَّنها نقده وسخطه وتهكمه الذي دلَّت عليه أقواله:
«هذا هو عالمنا الذي يمثله هؤلاء التائهون في شوارعنا ولا هدف لهم أبداً.. أين نذهب إذا كان ما تحت الأرض عظاماً نخرة؟.. كنت أظن في الماضي أن أسمى هدف للإنسان، هو أن نكون إنسانيين، ولكنني أدركت الآن أن هذا الهدف لم يكن نبيلاً»..
لاشك أنه الاحتضار الروحي الذي عاشه هذا الأديب في أميركا وخارجها. الاحتضار الذي مثلما دفعه في بداية حياته للسخرية منها والتمرد عليها، دفعه في “انعطافة الثمانين” لمواجهتها بلعنته التي يعلن فيها:
«ليأخذ الشيطان مجاهركم وتلسكوباتكم وتفاوتكم العرقي والديني وتعطّشكم للسلطة ومطامحكم المبهمة، وعلى أربع قوائم علّموا ـ إن كنتم قادرين ـ النمل الأبجديّة!. إن كان مقصدنا تغيير العالم، فليس أفضل من التلويح بمرآة نتملّى فيها ذواتنا على حقيقتها، ونضحك منها ومن قضايانا»..