إضاءات
سعد القاسم
على صفحته في الفيسبوك أعاد الأديب والباحث القدير الأستاذ محمد قجة نشر مقالة كان قد نشرها في شباط (فبراير) عام 2012 في العدد 56 من مجلة (الباحثون) تحت عنوان «ابن طفيل و الفلسفة الإشراقية»، وصفها كاتبها ب:« دراسة مكثفة لكتابه المشهور(حي بن يقظان) الذي ترجم الى كثير من لغات العالم».
في مقالته البالغة الأهمية تلك، يتحدث الأستاذ قجة عن عصر ابن طفيل (500 هجري – 1106 ميلادي) وقد كان عصر نضوج فكري كبير عرفه الأندلس، فعاصر ابن طفيل أعلاماً مثل ابن باجه المفكر الكبير الذي كان له بمثابة الأستاذ، وابن رشد الطبيب والعالم والفيلسوف العظيم في تاريخ الفكر الإسلامي والعالمي. برع ابن طفيل بالطب والرياضيات والفلك والفلسفة والشعر، وترك مؤلفات في كل تلك العلوم، ولكنها ضاعت للأسف فيما ضاع من تراث الأندلس الهام. والكتاب الباقي من مؤلفاته هو (حي بن يقظان) وهو سبب الشهرة العالمية التي يتمتع بها ابن طفيل.
استحضر اسم حي بن يقظان عندي تداعيات كثيرة تعود لمطلع حياتي، فقد ولدت في بيت تتوفر فيه على مدى الأيام الكتب متعددة المواضيع، والدوريات الشهرية المصرية، يأتي بها إلى باب البيت بائع المجلات في حقيبته الجلدية المحمولة على الكتف، الشبيهة بحقيبة ساعي البريد. كان من بين ما نبتاعه: مجلة الهلال وكتاب الهلال وروايات الهلال واقرأ والمختار، ويضاف اليها مجلة العربي الكويتية. إلى جانب المجلات الأسبوعية: آخر ساعة والمصور وروز اليوسف وصباح الخير وحواء، وسمير وميكي، والأخيرتان كانتا من نصيبي ونصيب شقيقتي. وقد توقفت هذه المجلات عن الورود إلى سورية عقب انفصال الجمهورية العربية المتحدة، وحل محلها مجموعة صغيرة من المجلات الأسبوعية اللبنانية، كانت أحبها الي مجلة (الحسناء) فقد كانت تضم صفحة منّوعة رشيقة خاصة بالأطفال. وقد أقامت هذه الصفحة مرة مسابقة للرسم شاركت وفزت فيها. وفيما بعد صحبني قريب لي إلى مكتب المجلة بدمشق لاستلام الجائزة المعلن عنها، وكانت خياراً بين مبلغ خمس ليرات سورية، أو هدية لم يحدد نوعها. اخترت الهدية رغم إغراء مسؤول المكتب لي بالخمس ليرات، وبأني إذا اخترت المبلغ يمكنني الحصول عليه فوراً، أو سأضطر للعودة ثانية بعد بضعة أيام ليتسنى لهم شراء الهدية، وهذا ما حصل، وعندما أزلت الورقة التي لفت بها وجدت كتابين صغيرين أنيقين. ولم أشعر بالندم حين قرأت أن ثمن كلٍ منهما كان ثمانين قرشاً فقط، فقد كانت المرة الأولى التي نلتُ فيها شيئاً بجهدي الشخصي.
لسبب لا أعرف دوافعه، كان انتقاء هذين الكتابين تحديداً لطفل في الثامنة أمراً غير مفهوم. فقد كان أحد الكتابين عن روبنسون كروزو والثاني عن حي بن يقظان، وكلاهما عاش وحيداً في جزيرة نائية، وبتأثيرهما عشت في عالم العزلة الداخلية سنوات طويلة كنت خلالها أتخيل – مدفوعاً بعشق المغامرة الطفولية – الجزيرة النائية التي أعيش فيها وحيداً، وأرسم الكوخ الذي سأبنيه على الأشجار من أغصانها. لم أكن في ذلك العمر قادراً على المقارنة بين الروايتين – وربما استهوتني حكاية كروزو أكثر- وبطبيعة الحال لم ادراك العمق الفلسفي والمعرفي والإنساني في رواية ابن طفيل، ولا السطحية والعنصرية الأوربية في رواية دانيال ديفو، التي نشرت عام 1719. وهناك من يعّدها الرواية الأولى في الإنكليزية.
بعد نحو ستين سنة أتيح لي أن أقرأ حي بن يقظان ثانية، من خلال مقالة الأستاذ محمد قجة المترفة، إنما برؤية أرحب وأعمق و أثرى معرفة، فغمرني شعور كبير بالرضى، ليس لاتساع الرؤية عما كانت فحسب، وإنما – أيضاً- لأني قبل نحو ستين سنة اخترت الهدية، ولم أختر الخمس ليرات.
مع أنها كانت تعادل (خرجيتي) لثلاثة أشهر.