صداقات هاربة

لم تكن التي عبرت أمامي بألوانها الزاهية غير زميلتي رغد.. لم تعرفني، أو هي ادعت بأنها لم تعرفني، مع أني عرفتها من أول نظرة على الرغم من الحشوات التجميلية التي ملأت خديها وشفتيها، وشدت جبينها لدرجة بدت عيناها واسعتان وحاجباها عاليان مرتفعان مندهشان.

حين سلمت عليها ابتسمت بصعوبة، وتكلمت بصعوبة كأن أسنانها مربوطة بجنزير.
غيرأني قلت لها (لم أعرفك).

هزت رأسها كعادتها ولعبت بخصلة من شعرها المصبوغ بالأصفر وقالت: (الزمن يغيرنا)

كدت أقول لها: طبعاً، ولكن لا يغير السمراء إلى شقراء والشقراء إلى رمادية، و..

وقلت معك حق، وحين دعوتها لزيارتي شكرتني وطلبت هاتفي.. غير أنها لم تعطني هاتفها.

كان هذا طبيعي جداً، فهي لم تعد صديقتي ولا رفيقتي بعد أن انتهى ما كان يجمعنا.

والذي كان يجمعنا كان كبيراً وجميلاً، حيث كنا بنات قرية واحدة تحدها الجبال شرقاً والبحر غرباً والمطر الغزير والرعد والطريق الترابي الموحل شتاءً والصيف الحار والغبار من باقي الجهات، كما كان يتخلل صداقتنا أسرار كثيرة وقهوة ومكاتيب رقيقة يرميها لنا الشبان والوشاة في الطريق.. كنا نقرأها ونضحك ونمزقها على مرأى من الشاب الذي أرسلها، مع ذلك لم يكن يتأخر في إرسال رسالة أخرى، ولكن هذه المرة يرسلها مع زميلة من زميلاتنا.

كانت الحكايات الصغيرة العفوية أجمل ما في صداقتنا.. وكان الأهل يباركون هذه المحبة والصداقة مع جارتي التي ظننت أنها ستبقى إلى نهاية العمر، فالأصدقاء يقبعون في الذاكرة مثل الأخوة وأحياناً أكثر وذلك لكثرة التفاصيل التي تعطي عمقاً وبعداً عاطفياً للصداقة خاصة أيام الدراسة.

لكن الذي حدث أن صديقتي تزوجت شاباً مثل كل شبان القرية.. لا يملك سوى راتبه، ولم يكن لديه حتى غرفة تسكن فيها رغد، غير أن باب “علي بابا” فتح له على مصراعيه.. وصارت القرية تقول: (الله رزقه على وجهها.. وآخرون قالوا: من أين له هذا؟) بدأت حكايات كثيرة وثرثرات كثيرة عن الجاه والسلطة والثروة والبيوت وشراء الحقول وبيارات الليمون.

في البداية لم أصدق، لكني أخيراً صدقت حين رأيت، ورأيت الكثير، إلا أن الأيام امتدت والسنوات طالت ولم نلتق بعد أن خلعت زميلتي كلّ الماضي من أسرار ووجوه وطرقات موحلة وأنهار فائضة، وجسور مكسورة وانتظار قاهر في الكراجات من أجل أن يطلّ علينا سرفيس الجامعة وما كان أجملها من طلة، كان سرفيس الجامعة مثل بوسطة فيروز، فيه كل الأحلام والتعب والحنين والجمال والشوق واللهفة، كان واسعاً لدرجة أنه أكبر من المدينة، وكان قادراً أن يجمع كلّ التناقضات الجميلة والألوان المتشابكة، لم نكن نحس بالمسافة الطويلة ولا بالإرهاق من طول الوقت، إذ كانت بيوتنا على بعد (شلفة حجر) من أحلامنا وضحكاتنا، إلا أن هذه البيوت فجأة ابتعدت.. وصار كلّ باب في جهة وكلّ طريق في اتجاه.. ابتعدت صديقتي.. خرجت من الدائرة الحميمة، سافرت وغيرت عنوانها وخرجت من الشلة، ومن نميمة الشلة.. كنت أقول لا يمكن إلا أن تتذكر شجرة الجوز والفلفل الكاذب ورفاقنا الذين كانوا ينتظروننا حين نتأخر حتى لا نخاف من وحشة الطريق والليل، غير أنها -على ما يبدو- لم تتذكر، لقد نزعت تعاريج ذاكرتها ووضعت تعاريج أخرى تناسب حياتها الجديدة بين الماس والحراس والكاس والطاس للأسف اختفت، بل ضاعت، وخسرنا جزءاً من ذاكرة الدراسة التي تحمل في طياتها ألق المقاعد والكتب، تحسرت للحظات واعتراني الشوق للحظات وتمنيت أن أعرف أخبارها، هل هي سعيدة في أسطول سياراتها ومباهجها وخواتمها الماسية؟.

وخمنت أنها سعيدة مع أصدقاء من علية القوم وزملاء من أصحاب الوجاهات، إلا أني غيرت كل هذه القناعات حين رأيتها مدججة بعمليات التجميل والأصبغة، يبدو أنها ناضلت ولاتزال تناضل لتبدو مثل تمثال منحوت من مرمر القصور كي تقبلها القصور، إلا أنه وللأسف ما إن رأيتها حتى لاحت لي شجرة الجوز تركض خلفها والسرفيس يقف على الجسر المقطوع من فيضان الأنهار بانتظارها، لم أستطع أن أراها إلا كما كانت سابقاً، وهي تريدني أن أراها في صورتها اللاحقة، فما استطعت.. فهربت مني وأنا هربت من صداقتها.

إضاءات – أنيسة عبود

آخر الأخبار
فيدان: الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تزعزع الاستقرار الإقليمي الجنائية الدولية" تطالب المجر بتقديم توضيح حول فشلها باعتقال نتنياهو قبول طلبات التقدم إلى مفاضلة خريجي الكليات الطبية مؤشر الدولار يتذبذب.. وأسعار الذهب تحلق فوق المليون ليرة الكويت: سوريا تشهد تطورات إيجابية.. و"التعاون الخليجي" إلى جانبها مع انتصار سوريا معاني الجلاء تتجد الإمارات تستأنف رحلاتها الجوية إلى سوريا بعد زيارة الشرع لأبو ظبي الاحتلال يواصل مجازره في غزة.. ويصعد عدوانه على الضفة مصر والكويت تدينان الاعتداءات الإسرائيلية وتؤكدان أهمية الحفاظ على وحدة سوريا بعد أنباء عن تقليص القوات الأميركية في سوريا..البنتاغون ينفي إصلاح محطة ضخ الصرف الصحي بمدينة الحارة صحة اللّاذقية تتفقد مخبر الصحة العامة ترامب يحذر إيران من تبعات امتلاك سلاح نووي ويطالبها بعدم المماطلة لكسب الوقت  الأونروا: إسرائيل استهدفت 400 مدرسة في غزة منذ2023 صحة طرطوس تستعد لحملة تعزيز اللقاح الروتيني عند الأطفال الأونكتاد" تدعو لاستثناء اقتصادات الدول الضعيفة والصغيرة من التعرفات الأميركية الجديدة إصلاح المنظومة القانونية.. خطوة نحو الانفتاح الدولي واستعادة الدور الريادي لسوريا التربية تباشر تأهيل 9 مدارس بحماة مركز لخدمة المواطن في سلمية الاستثمار في المزايا المطلقة لثروات سوريا.. طريق إنقاذ لا بدّ أن يسير به الاقتصاد السوري