لم أكن قد شربت قهوتي حين رنّ جرس الهاتف الأرضي .. شعرت بالسعادة لأن الهاتف يرن، هذا يعني أن العطل الذي مرّ عليه أكثر من شهر قد تذكرته المؤسسة وتم إصلاحه.
يعني أستطيع أن أتكلم مطولاً وأحكي عن الزمن المر الذي نعيشه وعن الغلاء والفساد والرشاوى.. وعن عتريس ومرداس وغيرهما من الأذناب الذين تحولوا إلى رؤوس.. وهذه الرؤوس صار لها أذناب متفرعة وجديدة وتمتد من حارة إلى حارة.
يعني لن أحسب حساباً لفاتورة الهاتف المحمول التي يفندونها لك ويرسلونها بكل احترام ووقار، ثم يشحذون منك الثمن، أيضاً بكل وقار.. وأنت بكل وقار تسأل: لماذا كل هذه الفاتورة؟ كيف صرفت كل هذه المكالمات وكل هذا الوقت؟ ومع أنك تود أن تراجع الحساب في شركة الهاتف المحمول إلا أنك تغض الطرف وتصرف النظر عن الموضوع خوف أن يشكلوا لك لجنة لترد على أسئلتك.. واللجنة بكل وقار ستكتب ما رأت وما حصل .. ثم سترفع كتاباً لتدارس الموضوع وتبيان نقاط الخلل وسبب ارتفاع الفاتورة مع أن هاتفك كان متوقفاً عن الإرسال.
وبالعودة إلى رنين الهاتف الأرضي، إذ كنا نحكي ونحكي.. وربما كان هناك من يتنصت علينا من الجيران أو من حارات أخرى، غير أننا ما كنا نهتم لأن الحكي ضرورة وحاجة.. وهذا ما عبرت عنه إحدى شخصيات روايتي النعنع البري التي قالت: (تزوجت لأني بحاجة لأن أحكي مع أحد ما).
ولكن أين هذا (الأحد ما)؟ وهل نحن قادرون على أن نسمع الآخر كالسابق؟ هل نستطيع تحمل ذلك البوح المجاني من شخص لا يعنينا؟ حتى لو أن هذا الشخص يهمنا ونعرفه ويعرفنا إلا أننا في هذا الزمن الرديء غير قادرين على تحمل شكوانا، فكيف نتحمل شكوى الآخرين (ألسنا كلنا في الهوى سوا)؟ هكذا قالت صديقتي حين شكوت لها وضع الكهرباء وكيف تأتي (لناس وناس) وكيف تمر المياه من أمام بيتنا ولا تلتفت نحونا منذ شهور، مع أننا ندفع الفاتورة و نهر السن نهرنا وفيه سبح آباؤنا وينابيعه في أرضنا، فأين تذهب المياه؟ من يسقي بها سراً أو علناً؟ لا يهم ..المهم أن بعض الأسماء تأخذ الكهرباء والماء وتدير ظهرها للفقراء، وإذا حدثتها عن الوطنية سبقوك، وعن الغلاء أيدوك ورسموا تكشيرة انزعاج على وجوههم كأنهم ليسوا الحرامية الذين يمصون دمك.
الهاتف يرن وأفكاري تسابق الرنين، حالة من الفوضى في ذاكرتي تأخذني يميناً ويساراً، مرة أقول: (لن أرد) ومرة أقول: (يجب أن أنهض وأرد لأعرف من وراء هذا الصراخ المتكرر، حين نهضت تعثرت يدي بفنجان قهوتي فاندلق على غطاء الطربيزة، قلت على طريقة أمي: (خير اللهم اجعله خير) لكني ضحكت من نفسي وأنا أتساءل: أي خير وأي طير وأي شر من انسكاب القهوة السوداء على الغطاء؟ كانت قطرات القهوة تسيل وتأخذ خطوطاً متعرجة في سيلانها، كأنها تشبه هذا الزمن مرة معك ومرة عليك .. ومرات تبتعد نقطة المركز عن الخطوط التي تتشابك مع النظر وتصير مركزك وحدك، ولا علاقة للقهوة بأي شيء من هواجسك، الهاتف يرن، جلست على الكرسي القريب ورفعت السماعة، قلت بصوت متعب (آآلو) غير أن سماعة الجانب الآخر كانت قد نزلت، وأغلقت الاتصال، ارتعشت يدي وشعرت أن أحداً ما يتقصد أن يغلق في وجهي لأنه انتظر أكثر من الوقت اللازم، حاولت استبيان الرقم لكني فشلت.. غير أني رفعت السماعة من جديد وسمعت (الطنين العادي لهاتف مغلق) ثم رحت أكمل حواري مع صديق مفترض.. حكيت له عن آخر أخبار الطقس والجفاف والحرائق .. وقلت له: إذا تكرر ذلك في سنوات قادمة فإن البلاد مقبلة على التصحر وتغيير المناخ وموت الغطاء النباتي المعمر، وستكون كارثة مناخية وبيئية كبيرة.
كنت أسهب في الشرح عن المناخ حسب ما درسته في الجامعة، بينما جرس المنزل يرن .. تركت السماعة واتجهت إلى الباب رأيت السائق منتظراً وهو يحمل كيس القهوة الشامية التي ترسله لي صديقتي الأديبة والشاعرة – ليلى الشايب – كل أول شهر.. قلت بصوت عال كأنها تسمعني: ( شكراً يا ليلى ..لقد حان موعد القهوة والصمت بعد كل هذه الثرثرة التي لا جدوى منها).
معاً على الطريق- أنيسة عبود