لم يكن من السهل على أم علي أن تقف أمام منزلها تراقب النار وهي تلتهم كرم الزيتون الذي زرعه جد زوجها أيام السفربرلك في مرحلة الاحتلال التركي البغيض.
مسحت دمعتها وقالت لجارتها الشجر أكبر مني ومنك تربينا في ظلاله قالت الجارة مواسية طولي بالك، منذ فترة حرقوا حقول القمح والقطن في الجزيرة اليوم تساوينا مع أخوتنا في الجزيرة.
بكت أم علي وقالت حقول القمح تعوض في العام القادم أو الذي بعده أما أشجار الزيتون التي تجاوز عمرها المئة عام كيف نعوضها وقد مضى العمر وليس لدينا الوقت ولا القدرة لنزرع ونسقي وننتظر.
كانت النار تمتد من أعلى الجبل وتنحدر باتجاه الأشجار وهي تطلق أنيناً وتوجعاً وأصواتاً مخيفة تدل على الخراب كتل النار يدحرجها الهواء شجرة الجوز في آخر الحاكورة اشتعلت مازال عليها بعض ثمار الجوز.. تناثرت مثل كرات اللهب، صرخ عامل الإطفاء بالمرأة كي تغادر المكان، لكن أم علي ظلت قابعة في مكانها ويدها على رأسها واليد الأخرى تهزها من هول ما يجري، إنها لم تر طوال حياتها التي تجاوزت السبعين مثل هذا المنظر المريع، ردد العامل وهو يحاول رش الماء حول المنزل، غير أن الماء لا يغير شيئاً: كأنما هو بترول يضاف إلى النار، ألسنة اللهب تصعد وتنزل وتجتاح منزل الجيران تسمع دوي انفجار جرة الغاز وصاحب البيت يهرع مولولاً كي ينقذوا ابنه المقعد الذي أصيب في معارك القلمون وهو يحتاج إلى رجلين لحمله.
أم علي تراقب الرماد وتغطي وجهها بمنديلها، لا تريد أن تصدق أن الله يرسل كل هذا العذاب إلى قريتها فهي قرية وادعة فقيرة مطمورة بأشجار الحراج والزيتون والعليق، أهلها بسطاء قدموا أولادهم من أجل الوطن دفاعاً عن أرض الوطن وعن أرض قريتهم التي تعيش العوز والقهر.
أبو مرعي يحمل عصاه ويسوق بقرته أمامه لكن البقرة تسقط أرضاً وتختنق من الدخان.. يحاول أن يرفعها عن الأرض ويرش عليها بعض الماء من الكوز الذي يحمله إلا أن البقرة لم تستجب.. فظلت قابعة خامدة إلى أن وصل الحريق إليها بعد أن عجز أبو مرعي عن جرها.. بكى وهو يودعها ويهرب وكأنما يودع عزيزاً فهي كانت من المعونات التي تلقاها لتعينه على الحياة بعد استشهاد ابنه.
سهام التي رمّلتها الحرب بعد خطف زوجها في عدرا وسجنه في سجن الإرهابيين لسنوات ثم قتله ورثت عدداً من أشجار الزيتون، سهام كانت في الكرم تقطف ثمار الزيتون وحدها لأنها لا تقدر أن تدفع اجرة يد عاملة تساعدها.. اكتفت بابنها الصغير، ستبيع الزيتون وتشتري فيه مؤونة المنزل وحذاء شتوياً لها وآخر لابنها مع أنها تفضل أن تشتريه من البالة لأن الموسم رديء هذا العام بسبب الجفاف وقلة الأمطار، سهام رأت النار تقترب ظنت أنها لن تصل إليها.
فالوادي بجهة وهي في جهة أخرى غير أن رماد الحريق امتد وقطع مسافة مئات الأمتار ويفحها، فقررت العودة إلى المنزل قبل أن تغيب الشمس عليها.. غير أنها صدمت عندما رأت النار تلتهم شجرة السرو القريبة، ثم تنتقل وكأنها بفعل فاعل إلى كرم الجيران لتلتف إلى زيتونها، تنفخ بقهر وتبكي، نادت الجيران لكن الجيران تجمعوا وراحوا يحرسون بيوت القرية.
فالأرواح أهم من الأشجار مع أن أم علي قالت: قهري اليوم وزيتوننا يحترق يعادل قهري على فراق ابني الشهيد.
ربما حزني الآن فيه وجع مختلف أشعر أن يداً خفية تحرق قلوبنا من جديد، اهل القرية يأخذون أم علي معهم هرباً من الاختناق تساقط أطفال في الطريق ودجاجات وعجول صغيرة من شدة الدخان وكثافته وعندما اقتربت أم علي من نهاية القرية نظرت على الوراء تتأمل كرم الزيتون صرخت بأعلى صوتها وانهارت على الأرض وهي تقول (الحريق وصل إلى قبر علي) رددت بصوت مقهور ثم غاب الصوت وحضر اللهب واختفت الصورة ولم يظهر بعدها سوى النار الراكضة خلف الأشجار بينما أهل القرية يقفون بعيداً وهم يتأملون بيتوهم ورزقهم وآمالهم وهي تترمد. . ويرددون (لا حول ولا قوة إلا بالله).
معاً على الطريق- أنيسة عبود