ببراءة الأطفال كانت مريم تسألني…لماذا دائماً أنت مشغول بهاتفك يا جدي؟ …اتركه قليلا وتعال نتحدث ..بعد أن تركتم المناوبة في العمل لا نراك الا وانت مشغول بالهاتف …ماذا تفعل؟ ..
لتردف أختها الصغيرة مايا …صحيح..ما عندك شغل غيره ..
حز بنفسي السؤال وترك مجراه عميقا …كيف تكون حاضرا جسدا بين أهلك وأحبتك ولكنك غائب عنهم روحا وعقلا ومشاعر ..انت بمكان آخر غير الذي تجلس فيه مع آخرين غير من تجالسهم جسدا ..
أليس هذا الاستلاب الحقيقي والغربة التي تعني الفصام بكل ما يحمله من معان ..
دون شك إن هذا العالم الازرق سلب منا أكثر مما أعطانا وأظهر ما فينا من علل وأمراض كنا نخفيها ..او بالأصح لم نكن نجرؤ على إظهارها كما نريد ..لكننا اليوم وقد جمعنا غريزة القطيع الالكتروني صرنا نفاخر بما نحن عليه ..
علل اجتماعية كثيرة طفت على سطح الأزرق هذا وكان الغرب سباقا باكتشافها والعمل على وضع تشريعات وحلول تحد من أثرها..
أمراض نفسية وتربوية وجسدية وقد توقف الكثيرون عندها ..ولعل ظاهرة التنمر هي الأكثر انتشارا ..التنمر الاجتماعي والعلمي والثقافي وما في المصطلح من مشتقات ومعان .
وكلمة التنمر في أحد معانيها تعني فساد الخلق ..
نعم فساد الخلق والغضب.. من هنا يمكن القول لمن يظن أنها تعني العنف والقوة كما النمر .. ليس هذا المعنى المقصود، بل معنى الفساد وسوء الأخلاق..
فالتنمر الاجتماعي بهذا المعنى هو انك فاسد خلقيا اذا ما كنت تمارسه …وبالمناسبة من يتصفح مواقع الإنترنت فسيجد أن معظم المستخدمين في هذا الشرق متنمرون بطريقة تدل على نقص بكل شيء من التربية إلى الثقافة والقيم وافتقاد روح الإنسانية والقدرة على الحوار واستيعاب الآخر.
لسنا بصدد البحث عن أسبابها لكن بالتأكيد يقف العامل الاجتماعي والاقتصادي وضغوط الحياة والتشتت والضياع في مقدمة الأسباب ..
ومن مظاهر التنمر التي يمكن للمرء متابعتها ولم يرصدها الباحثون التنمر اللغوي الذي هو أساس كل تنمر..
التنمر اللغوي من العامية إلى الفصحى إلى كل ما على الصفحات من منشورات وتعليقات فعل وردود فعل تدل على فساد لغتنا وبالتالي يعني فساد ثقافتنا ويرسم خطوطا عريضة لمجتمعنا فلم يعد علماء الاجتماع في الغرب بحاجة إلى الانخراط في مجتمعاتنا لدراسة أحوالنا.. نحن أمامهم بعجرنا وبجرنا من المحيط إلى الخليج …عراة الكترونيا ..نقدم كل شيء عن طيب خاطر..حتى ماء الصرف الصحي يعرفون ماذا يحمل ..
التنمر اللغوي ظاهرة عنف تحمل في طياتها الكثير من القضايا التي يجب أن تعالج وأولها علاجنا النفسي نحن ..
اللغة كائن حي .. هو نحن ونحن هو، لذلك دائما نردد في البدء كانت الكلمة ..والكلم فعل وجود …
الكلم يحيي ويميت..للكلمة قوة خفية تعرفها وتشعر بها حين تسمع كلمة نشازا خارج السياق ..
وذكر الشيء يعني استحضاره، ألا نقول: “اذكر الديب وهيئ القضيب”.
الا نقول: ذلك المرض.. عن السرطان ونتجنب ذكره حتى لا يحضر كما نظن …ألا نقول: كش برة وبعيد .
وهل التمائم والمعوذات منذ كانت إلى اليوم إلا اعتراف ضمني منا أن للكلمة روحاً تشفي وتميت.
التنمر اللغوي داء الجميع ..وخلاصنا منه كما قال الرسول (ص) الكلمة الطيبة صدقة.
معا على الطريق ..بقلم أمين التحرير ديب علي حسن