لا شك أن المرأة الكاتبة قد سجنت نفسها لزمن طويل في بوتقة قضايا الجسد، ومعارك هذا الجسد الخاضع للعادات والتقاليد محاولة التصدي للموروث الذكوري الذي ظلّ يلاحقها سراً وجهراً لدرجة أنها هي صارت تلاحق ذاتها المتغربة بين أفكارها وطموحها وبين قيود المجتمع العربي الأبوي الذي تعيش فيه راضخة لبنيانه وإشكالاته وأسئلته وأجوبته التقليدية الثابتة.. وإلا فسيحاسبها العرف وتصير خارجة على قوانين المجتمع، ما يضعها في خانة الشذوذ والتمرد وقد حدث ذلك مع كاتبات عربيات كثيرات.
غير أن تلك الفترة التي مرت بها المرأة وانتهت فيها من معاركها الشخصية أدت إلى تحولات كثيرة في نتاجها الإبداعي من خلال تجذير وعيها وعمق إدراكها لرصد واقع متخلف غير عادل حيث طغت هموم الإنسان العربي ومشاكله الكبيرة ابتداء بالماء وانتهاء بالغذاء والتعليم والفساد، وإن ظلت المرأة هي المحور الرئيس في الكتابة التي تتناولها.
غير أن الذي يجري الآن لا يطمئن- إذ يبدو المشهد اليوم شديد الالتباس بين تفتح المرأة على قضايا العالم ووعيها الحاد بموقعها من اللغة والخطاب، من الثقافة والأيديولوجيا وبين إعادة اعتقالها في سجن التصورات عن الخصوصية والجسد- والموروث الديني والاجتماعي.
إن ما سمي بثورات الربيع العربي التي انطلقت منذ عشر سنوات والتي هي عباره عن ثورات هدامة أو بالأحرى مشروع تآمري غربي لتدمير المنطقة برمتها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.. شكلت طعنة للمرأة أولاً ولوعيها وإنجازها ضد التخلف والاستعباد والقمع الجسدي والفكري والأخلاقي ثانياً، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في معرفة حقوقها وواجباتها وإدراكها لأهمية مشاركتها في البناء وترسيخ قيم الحداثة والتطور والنهوض بالمستقبل مثلها مثل الرجل.
لقد تداخلت الدوائر وتعثرت الخطى وتاهت البوصلة عند المرأة والرجل معاً بعد أن سيطرت ميليشيات مسلحة وتنظيمات متطرفة على بعض البلدات والمدن وفرضت على المرأة العودة إلى عصر التخلف والانحطاط وتحويلها إلى مجرد جسد أو وعاء رغبات وشهوات للرجل الذي منع تعليمها وسجنها تحت خيمة الأمة وباع واشترى فيها كجارية أو عبدة، فكان هو السلطان وكانت هي التابع المطيع وكأن كل ما ناضلت في سبيله قد ذهب سدى وأن ما تعلمته وسعت إلى تحقيقه كإنسان لا محل له أبداً في قاموس هؤلاء المدعين الذين يلبسون ثوب النفاق والقتل ويحملون سيوف جزّ الرقاب.
لقد أصيبت المرأة بنكسة.. وتلا ذلك أو انعكس بشكل أساسي على الأطفال، حيث لم يعودوا أطفال المستقبل.. بل صاروا أطفال السيف والسلطان والقتل والجلابيب والشرائط السوداء التي تقشعرّ لها الأبدان، لدرجة أن الصور والفيديوهات التي تتسرب عبر وسائط التواصل تشعر المشاهد بأنه في زمن الجاهلية، الطفولة مغيبة والمرأة مغيبة والعقل في غياهب المجهول والمرأة الكاتبة لا تعرف على أي مفترق ستوزع أفكارها ولا في أي أرض ستزرع أحلامها.. كل الخوف أن تمتد السكاكين إلى حروفها فماذا ستكتب وعن أي القضايا ستكتب.. والقضايا كثيرة ومعرشة على كل زوايا حياتها، هل تعود إلى مشكلة الجسد الذي عاد إلى سوق النخاسة أم تنطلق نحو القضايا الكبرى التي لم تعد صالحة للاستخدام ولم تعد ملحة، حيث انتهى زمنها وخاب ظن العاملين عليها، الهموم الكبرى صارت رغيف خبز وعلبة دواء وربما بعض الورق والأقلام لكتابة بيان استمرار الحياة التي لا آفاق لها ولا مستقبل.
غير أن العالم لن يستمر في هذا العماء والخيم السوداء التي تكلل الجسد والعقل لا بد ان ترمى ذات يوم حتى لا تؤثر على العقل فتنكمش تعاريجه وتضيق آفاقه، لذلك على المرأة الكاتبة أن تبتكر طرقاً وأساليب جديدة تقدر من خلالها التعبير عن قضاياها وقضايا مجتمعها لأن القضايا صارت متشابكة وملحة ولا جدوى من الاختباء في ظلها.
ستكتب المرأة كما سيكتب الرجل ولكن ماهي القضايا الأكثر إلحاحاً في الزمن الداعشي وفي زمن الشادر والسيف وقطع الرؤوس؟
لا بد من التعامل مع اللغة بطريقة جديدة لتكون هذه اللغة بيت الوعي والفكر والنظر نحو المستقبل بعيداً عن منظومة الجسد والتكرار والتقليد.
معاً على الطريق – أنيسة عبود