الملحق الثقافي:إعداد: رشا سلوم:
ربما كان على العرب أن يدركوا أهمية اقتصاد الثقافة منذ زمن مبكر، لاسيما أن مثل هذا الاقتصاد كان موجوداً مع الدولة العربية في عصريها الأموي والعباسي، من صناعة الورق إلى الحبر، وما سمي الوراقة التي أخرجت لنا كتاباً مبدعين مثل الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، وغيرهما، وكم من الكتب المؤلفة دفع من أهديت إليهم ثمنها ذهباً؟! هل نذكر بالأصمعي وغيره؟ هل نذكر بسوق عكاظ والمربد؟
اقتصاد الثقافة كانت صناعة عربية مهمة جداً، ومازالت، لكن تم إهمال هذا الجانب في الفترة الأخيرة للانشغال بقضايا كثيرة، منها العمل على مشاريع اقتصادية سريعة الدخل، أي الاقتصاد الريعي، وغيره من اقتصاد الخدمات، يضاف إلى صناعة الكتب السياحة والسينما والدراما وغيرها من موارد شتى هي اقتصاد نظيف. هل ننسى المعارض التشكيلية وما تقدمها اللوحات، والتصميم الفني؟
بكل الأحوال العودة والانتباه الى هذا اللون من الاقتصاد ضرورة قصوى، وهذا ما تشير إليه الكاتبة رندة عطية في مقال لها إذ ترى أن قطاعاً كبيراً من المهتمين بالشأن الثقافي لا يعي العلاقة الطردية بين الثقافة والاقتصاد، تلك العلاقة التبادلية التي تتعاظم في الدول المتقدمة وتقل تدريجياً في الدول الأقل تنمية، فكلما ازدهرت الثقافة ازدهر الاقتصاد، فالأخير والتنمية لا شك أنهما يستفيدان من المنظومة الثقافية برمتها.
الكثير من الدول حققت فوائد اقتصادية كبيرة من خلال التوظيف الجيد لخريطتها الثقافية، سواء عن طريق انعكاس السلوك المجتمعي الجيد على ممارسات شعوبها الاقتصادية، أو عن طريق استثمار تراثها الثقافي لا سيما الحرف اليدوية والسينما والمنتجات الإبداعية في تحقيق عوائد ومدخولات مالية مباشرة.
ونتاجاً لهذه العلاقة الديناميكية ظهر ما أُطلق عليه “الاقتصاد الثقافي”، هذا المفهوم الذي بدأ يتداول بشكل كبير مع بداية الألفية الجديدة، حيث أصبح القطاع الثقافي يشكل مورداً حقيقياً لتطوير الأنشطة الإنتاجية في الأسواق العالمية، ورغم حالة القلق التي فرضت نفسها بشأن مخاوف تنميط التعبيرات الثقافية وتسليعها وإخضاعها هي الأخرى لمنطق السوق، فإن الرهان على استثمار التنوع الكوني في التعبيرات الثقافية والحفاظ على أبعادها الحضارية والتاريخية يشكل خزاناً حقيقياً للتنمية الاقتصادية.
وفي العالم العربي لا يزال هذا المفهوم في أطواره التمهيدية الأولى، حيث إن الثقافة كمفهوم عام تقبع داخل أطر تقليدية جامدة، محصورة في عدد من المرادفات دون غيرها، ويتعامل معها الأغلبية على أنها أمور غير ضرورية، فقط من باب الرفاهية، رغم ما حققته دول العالم من نجاحات كبيرة في تحويل هذا المفهوم إلى قوة اقتصادية هائلة.
مفهوم بحاجة إلى مراجعة
رغم تباين وتعدد مفاهيم الاقتصاد الثقافي، فإنها تنحصر في مفهوم أعم وأشمل، يتناول “كل الديناميات المرتبطة بالتعبيرات والأنشطة الثقافية، المادية وغير المادية، المُساهمة في السوق الاقتصادية عبر استراتيجيات إنتاج وتوزيع وتعميم الخدمات الثقافية المفتوحة للعموم”.
ووفق هذا التعريف، فإن تلك الخدمات التسويقية تساهم في إحداث قيمة مضافة تتمثل في خلق فرص التشغيل وتصدير المنتوج الثقافي وتنويع الخدمات الاقتصادية وتنمية المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتضم هذه الأنشطة قطاعات متنوعة ومتداخلة الاختصاصات مثل (الموسيقى، السينما، التليفزيون، الراديو، السمعي البصري، الكتاب والنشر، الصحافة، المكتبات، الأركيولوجيا، المنتجعات، حدائق الحيوان، المحميات، الفنون الاستعراضية، التراث الشعبي، المسرح، الرقص، الفتوغرافيا، التشكيل، النحت، المعارض، المهرجانات، تكنولوجيا الاتصال، الصناعات التقليدية الفنية والإنتاجية، الهندسة المعمارية).
يتميز هذا المفهوم بنظرة شمولية متسعة، تضم تحت سقفها أغلب الأنشطة المرتبطة بصورة أو بأخرى بالمفهوم الثقافي، لكن تطبيقه ميدانياً لم يكن على المستوى المأمول والمتسع الذي يعكسه هذا التعريف منذ الوهلة الأولى، لا سيما في الدول النامية، رغم توافر المواد الإبداعية والأنشطة الثقافية القادرة على تشكيل البنيات الهيكلية لصناعة ثقافية مستدامة.
كثير من المهتمين بهذا المجال يرون أن النهوض بالتنمية الثقافية كرافعة للتنمية الاقتصادية، يتطلب تدشين سياسات عامة تدمج كل الأنشطة والقطاعات الثقافية من منظور استراتيجي (السياحة الثقافية، البنيات التحتية، التربية والتعليم والتكوين، العمل الجمعي، التكوين المستمر، المتدخلون المهنيون، وسائل الاتصال السمعي البصري)، بهدف تطوير نظام مؤسساتي للصناعة الثقافية من خلال تقوية المؤهلات المؤسساتية العمومية وشبه العمومية والقطاعات الخاصة المشتغلة في المجالات الثقافية المختلفة، بما ينجم عنه في النهاية مخرج قادر على الإسهام في دفع عجلة النمو الاقتصادي إلى الأمام.
الاستثمار في الثقافة
الكتاب المعنون بـ”الاستثمار في الثقافة: بحوث علمية محكمة لمجموعة من الباحثين والباحثات العرب والعمانيين” الصادر عن النادي الثقافي في عمان، استعرض رؤية شمولية تدرس علاقة الاستثمار الثقافي بجوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بهدف تحقيق التكامل بين عناصر هذه العملية المستدامة، من خلال ما يمكن أن تضيفه الثقافة من تعزيز للاقتصاد الوطني من خلال هذا الدور.
ينطلق الكتاب من الإيمان بأهمية الدور الذي تلعبه الثقافة الذي جعلها محوراً أساساً في أجندة القرن الحاليّ، وفي توجهات منظمة اليونسكو لتعزيز التنوع الثقافي في العالم، وهو ما ظهر جلياً في خروج العديد من الدراسات العلمية التي تسعى لتقديم الثقافة بوجوهها المتعددة كمواد اقتصادية يمكنها المساهمة في الدخل الاقتصادي للدولة، باعتبارها مواد ذات أبعاد تنموية قابلة للتشكل بأشكال وصور أخرى عند توافر الظروف المطلوبة لذلك.
الباحثتان جليلة بنت راشد الغافرية وزيانة بن عبد الله أمبو سعيدية، أشارتا في بحثيهما المنشور بالكتاب إلى أن الثقافة ذات قيمة اقتصادية عالية، تتجلى في إحياء مهن ترتبط بالثقافة المادية وغير المادية، وفي توفير فرص العمل، كما هو ظاهر في التوجه العالمي نحو توظيف الثقافة المحلية وتطويرها من الجهات الرسمية وغير الرسمية، لافتتين إلى أن الدور الكبير الذي لعبته الثقافة في جلب المستثمرين دفع مدن المركز إلى مضاعفة الاهتمام بدور الثقافة في سياسات التنمية.
ونوهت الكاتبتان إلى ضرورة الاهتمام برأس المال الثقافي وتفعيل دور الثقافة بشتى أشكالها، وفي مقدمته التراث المادي واللامادي، وهو الرأي ذاته الذي ذهب إليه الخبير الاقتصادي مسعود بن سعيد الحضرمي الذي قدم مفهوماً أشمل لعملية التنمية الشاملة، يكون فيه دور العامل الثقافي ليس أقل أهمية من العامل الاقتصادي.
الكتاب في مجمله خلص إلى مناشدة القائمين على أمور الثقافة في العالم العربي، بأن يكون الاستثمار الثقافي ذا مردود ربحي من أجل خدمة الإنسان وتسويق عطائه وإبداعه الفكري وخلق الكوادر المتعلمة والمتدربة لتعزيز الاستثمار الثقافي، معتمداً في ذلك على بعض الاستراتيجيات منها التركيز على مسألة إعداد الموارد الإنسانية وسبل تنميتها وتأهيل البنية الثقافية التحتية عبر تأهيل مؤسسات المجتمع المدني الثقافية، لكي تصبح منتجة، مع الأخذ في الحسبان أن تحقيق الأرباح في مجال الاستثمار الثقافي غير ممكن على المدى القصير، لذلك يدعو إلى وضع سياسة لصناعات ثقافية حديثة تراعي التنوع الثقافي في البيئات العربية المختلفة.
شريحة كبيرة من المثقفين يرون أن الثقافة كمفهوم له علاقة بالاقتصاد بثلاثة أبعاد: الأول الاقتصاد الثقافي وهو الذي يتعامل مع المنتج الثقافي كسلعة أو خدمة، والثاني ثقافة الاقتصاد وهو الذي يتعامل مع السلوك كمؤثر على الاقتصاد، والثالث الاقتصاد الإبداعي وهو الذي يتعامل مع الأفكار الإبداعية في الاقتصاد بهدف تحسينه أو بناء أنواع جديدة من المؤسسات لم تكن معروفة من قبل.
الأبعاد الثلاثة لتلك العلاقة يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في اقتصاد الدول، إذ إن السلوك في النهاية هو محصلة الأفكار التي يؤمن بها الفرد، وهذه الأفكار تمثل ثقافته في النهاية، التي على مؤسسات الدولة – على مختلف أنواعها – وضعها تحت المجهر، وبالتالي الفحص الدقيق لمعرفة مجموعة كبيرة من الحقائق، منها مدى تأثير هذا السلوك على اقتصاد الدولة، ومن هنا يمثل السلوك عنصراً بالغ الأهمية في الاقتصاد.
ومن الأخطاء التي تقع بها الدول العربية في تعاملها مع الاقتصاد الثقافي، محدودية وعيها مع فكرة الصناعة، حيث تحصر الثقافة في الكتاب فقط، وتحصر الكتاب في الغالب في فنون السرد والشعر، وفي المقابل يتم تهميش بقية العلوم الإنسانية كلها مثل: الفلسفة وعلم النفس وعلم النفس السياسي وعلم النفس الثقافي وعلوم الاجتماع، بحيث يبدو للناظر أن الثقافة هي الرواية.
هذا بخلاف تجاهل المجالات الإبداعية المختلفة التي من الممكن أن تدر دخولاً اقتصادية هائلة حال استغلالها بالشكل الأمثل، مثل الحرف اليدوية ومنها الخط العربي وفنون التراث والزجاج، وهذه تمثل عنصراً مهماً في الثقافة، بجانب السينما والمسرح والمعارض وخلافه.
تلك المجالات كانت سبباً في إنعاش خزائن دول بأكملها حين وضعتها تحت مجهر الاهتمام وأقامت لها الخطط والدراسات، ومن أكثر الأمثلة التي تجسد ذلك، الصين التي تحقق مكاسب من الصناعات اليدوية تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات وتعفيها من الضريبة على الدخل، بل الأكثر من ذلك تشتري الحكومة هذه المنتجات وتسوقها عبر سفاراتها وملحقيها الثقافيين.
الأوضاع الاقتصادية المتأرجحة التي يشهدها العالم بصفة عامة ولاسيما الوطن العربي كما تخلص عطية إلى القول، تتطلب إعادة النظر في كل الموارد المتاحة لتوظيفها بشكل أمثل لتحقيق العوائد منها، وعلى رأسها الثقافة، مع الوضع في الاعتبار أن العلاقة بين الفرد والثقافة علاقة عضوية ديناميكية، تحتاج لأن تفرد لها المساحات لأجل تطويرها بما يحقق التنمية المستدامة المنشودة لكل الأمم والشعوب.
التاريخ: الثلاثاء22-9-2020
رقم العدد :1014